تقدم ضابط برتبة نقيب تعلو وجهه ابتسامة متخابثة، تبادل التحية مع الخاطفين، بعدها أمر شرطيا بأخذ صيدهم مثلما سموه، إلى داخل بناية المركز، فسحبه الشرطي من ساعده ودفعه أمامه، حينها سمع الضابط يوجه كلامه لمن في السيارة.

ــ تحياتي لأبي رحيم، ليكن كل شيء عند حسن ظنه، وليأمر بما يرغب، فليس لنا غيره، له التحية القلبية والسلام والاحترام، ولكم وافر الشكر والممنونية، جهودكم طيبة ومخلصة، تسلمون.

بعد ذهاب سيارة الخاطفين أمر الضابط شرطيه برفع الغطاء عن رأس سجينهم. عندها طالع السجين باب البناية، تفرس بالواجهة جيدا، وأطلق حسرة كان يختزنها في صدره ثم عب من الهواء ملء رئتيه. تذكر واجهة البناية هذه حين دخلها للمرة الخامسة، وكانت الأخيرة له، عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين، على عهد حكم حزب البعث، وكان دخوله إليها يتكرر عهد ذاك، كلما حل ضابط جديد لإدارتها، وها هو يعود ليجد نفسه فيها وبتهمة جديدة رغم جهله بطبيعتها، ولكن مثلما أخبره خاطفوه فهي معارضة السلطة أيضا.

اليوم هو الخامس من الشهر الثاني من العام ألفين وعشرين. كم مضى من الزمن في تأريخ هذا البلد، ورغم جميع التغيرات والتحولات، فقد بقي يحمل ذات السمات من القسوة والقهر، ولم تهجر الكثير من العقد النفسية والسياسية صدور الكثيرين، ولذا تلح في خاطره الآن فكرة، أن هناك فكرا جمعيا أو مرضا متوارثا وحتى أواصر قربى بين مرتزقة ذلك العهد وما قبله وما يأتي بعده فالنفس البشرية الخائفة الغبية دائما ما تلجأ لكبح جماح الأخر وتطلعاته للحرية والعدالة بالكثير من القسوة والعنف.

نظر إلى جدران البناية ولاحظ طلاءها الأزرق الغامق. غير هذا الطلاء الجديد، لم تحدث تغييرات تذكر في مدخلها، ولا حتى في الممر الطويل المفضي إلى غرفة ضابط الخفر، وهي الغرفة المقابلة للممر الأخر الطويل الذاهب حيث زنزانة السجن، التي سبق له أن كان جزءًا من محتواها وكان نزيلها لمرات عديدة.

 كانت اللوحة المعلقة فوق باب غرفة الضابط قد أبدلت عن سابقتها، فهي الآن مؤطرة بإطار ألمنيوم، وبخط كوفي ذهبي جميل، وبخلفية بنية خافتة اللون، وخط عليها بخط أنيق بارز، ضابط الخفر. يتذكرها على ذلك العهد، حين كانت قطعة خشبية بطلاء اسود غامق، وخط مرتبك بلون ابيض. ربما هذا الذي تغير وليس غيره. ابتسم وسحب جسده بتثاقل، عندها لكزه الشرطي بقوة، ثم دفع به نحو وسط الغرفة. واجهه الضابط بسيل من كلمات جوفاء سمجة، كان يلف ويدور بها حول موضوعة، لم يجد بدوره فيها ما ينفع للسماع، فخرج بأفكاره بعيدا نحو مدينته التي تبعد عن بناية هذا المركز المشؤوم عشرة أمتار لا غير، وهو نفس امتداد الممر الخارجي حتى الشارع المجاور. كان الضابط يشرح مهام الشرطة وواجباتهم تجاه الوطن والمواطن والأمن والسلم الاجتماعي، وأطرى بالمديح لمهامهم في كشف الجرائم وإعادة هيبة الدولة، ثم ختمها بالقول:

ــ ألا تخجل من ممارسة الدعارة والقمار وأنت في هذا العمر.

شعر بفمه جافا ولسانه يابسا كخشبة، فلم يستطع ابتلاع لعابه ومن ثم هضم هذه الشتيمة والكلام البذيء، ولم يكن مستعدا للتغاضي عنها وإهمالها.

ــ من المناسب أن تعرف أني من سكان هذه المنطقة التي تخضع لسلطتكم، وحسب ظني بأجهزتكم الأمنية، فأنتم تملكون المعلومة والمعرفة الكاملة عن جميع سكانها، وتحصون جيدا بيوت الجميع. أنا ولدت هنا، وعشت حياتي بطولها وعرضها هنا أيضا، واعتقلت في عهد الحكم الماضي لعدة مرات، وقبعت لأيام طوال في زنزانة مركز شرطتكم هذا، قبل أن أرحل للمحاكم بتهمة معارضة السلطة، وسجنت لسنين عديدة، وفي كل مرة من تلك الاعتقالات والتحقيقات والسجون، نلت من التعذيب الكثير، ولكن لم توجه لي مثل هذه التهم القذرة السخيفة، التي استمع إليها الآن، لذا أعتقد بأن من وجه لي تلك الشتائم ومن أخبرك بها، حتما هو بالذات من مارس ويمارس الدعارة والرذيلة وليس أنا. هذا كل ما لدي لأقوله.

ــ أنا لا أوجه هذه التهمة لك وإنما هم من أخبرني بها.

ــ وهم بالذات من يمارس الرذيلة والعهر وليس غيرهم، هل جلبوني إليكم بكتاب اعتقال رسمي؟

ــ كلا، لا يوجد مثل هذا.

ــ إذا كيف ترتضي مهنيتك بالذي يحدث، وما الذي يجعلك تعتقلني دون سند قانوني؟

ــ على أي حال لنرَ ما الذي يكون بعد ذلك.

ــ وما هو ذلك ليكون بعده؟

ــ أخي لست مسؤولا عن الذي حدث وانتظر الأوامر التي تأتي.

ــ ومن أين تأتي هذه الأوامر؟

ــ أنت متهم وتضعني الآن في موضع الاتهام.

ــ لست متهما بل أنا مختطف من قبل عصابة، وأنت تشارك في عملية الاختطاف.

 وكأنه لدغ من عقرب، صرخ الضابط بأعلى صوته طالبا من الشرطي الذي كان يتنصت خلف الباب، أن يأتي ويسحبه إلى غرفة الحبس. بلمح البصر قفز الشرطي وسط الغرفة، وسحبه بقوة من ساعده وقاده عبر الممر، ليقفا أمام الباب الحديدي الذي كان نصفه العلوي شباكا بقضبان حديدية، وتظهر خلفه قاعة الحبس. أدار الشرطي قفل الباب الثقيل، وطلب إليه الدخول ليغلق الباب وراءه. كان هناك مجموعة من معتقلين، بعضهم يغط بنوم ثقيل. أربعة اتخذوا الزاوية الشمالية للقاعة، كانوا يتهامسون، دون أن يثير حضوره اهتمامهم. آخرون يجلسون متكئين إلى الحائط المواجه لباب الزنزانة، راح البعض ينظر نحوه ببرود، وبدت على وجوههم ملامح تجهم. سجينان يغطان بنوم عميق قرب بعضهما في طرف القاعة القريب من الباب. بدت قاعة الحبس مهملة لم تنظف منذ فترة، فالأرض متربة، وهناك بعض قصاصات جرائد مرمية وسطها، وثمة قطعة قماش تبدو وكأنها بقايا غطاء مطروح في الزاوية القصوى، وقميص أسود معلق على الحائط.

جال بنظره زوايا الغرفة وتذكر دخوله المتكرر إليها في المرات السابقة، وكيف كانوا يحشرون فيها بأعداد كبيرة، تكتظ بهم أمتارها القليلة، فيسهدون لأيام، يتداولون بينهم الأماكن، للحصول على حصة نوم ولو لساعات قليلة. وتحل بهم لحظات فرح، حين ينادى عليهم للترحيل إلى المحاكم، حيث يصدر هناك قرار الحكم بالسجن، فيساقون بعدها مباشرة، إلى أحد السجون، حيث القاعات أوسع وأرحم من زحمة هذه القاعة.

توجه نحو الزاوية التي سبق واتخذها مكانا تنافس عليه سابقا مع آخرين. ابتسم وهو يتذكر كيف كان يستحوذ على المكان بشق الأنفس، عندها تكون تلك الزاوية وكأنها مخصصة له دون غيره. وضع ظهره في الزاوية عند تلاقي الجدارين وراح يتلمس جسده. كان الألم يغطي مساحات كثيرة منه، وبالذات ظهره وعند مكان الخاصرة والساقين.

 في هذا المكان وفي المرة الأخيرة لاعتقاله، حفر على الجدار اسمه وتاريخ اعتقاله. نبهه أحد السجناء بشيء من الطرافة على ضرورة تأبيد حضوره في المكان، وهذا ما جعله يحفر اسمه وساعة اعتقاله وتاريخ اليوم والعام بملعقة الطعام وبأناة وجد. تلمس الجدار، وكأنه يبحث فيه عن تلك الذكرى، ود لو يستطيع أن يزيح الطلاء الثقيل عنه، لم يجد لديه آلة تزيح تلك الصبغة الغامقة التي تراكمت عليه بمرور الزمن ولكثرة تكرار طلائها، وكأن هناك أمرا مقصودا لمحو ذكريات من العذاب والوجع دائما ما كان يتردد صداه بين هذه الجدران، وما كان مناسبا استخدام أظافره لانجاز هذا العمل، ولكن وجوده وإنفراده في ذات المكان وفي هذا الوقت دون مزاحمة الآخرين، شعر وكأن حالة من الرضا وشيء من سكون تنتاب جسده المنهك.

جميع الاعتقالات والسجون وحتى التعذيب والبذاءات التي واجهها على ذلك العهد، لم تكن لتستطيع تدجين عناد روح. فلم يكن فريسة سهلة لنوايا الجلاد الشريرة الخبيثة، وكان لذلك سحرا خاصا يقترن بعزيمته وقوة إرادته وقدرته على الصمود. ولكن كثيرا من الأشياء قد تغيرت وتبدل إيقاع الحياة ومثلها شخوص السلطة، ولكن بقيت ذكرى تلك القسوة والآلام راسخة في النفوس، وما عاف الوجع قلوب الناس، ويجدها اليوم وقد أعيدت بذات العنف مسربلة بخدعة الديمقراطية المنتقاة، وعاد الخوف يسربل حياة العراقيين، بعد أن ظنوا خيرا بالتغيير.

 كان الليل طويلا جدا لم يغمض له جفن، فراح يحدث نفسه ويعيد سيرة حياته، منذ أول يوم دخوله مدرسة القدوة الابتدائية، ولحين إحالته إلى التقاعد. تتسلل الأفكار تباعا، مشبعة بالوحشة. تتقافز الصور أمامه بعجالة، فيجد نفسه مسكونا بالبحث عن منافذ للهروب بعيدا عن الكدر والغم، ولكن هيهات فكل الذي حدث ويحدث وما مضى كان يلاحقه ويركد راسخا في تلافيف رأسه.

 بعد هذا النهار الذي عانى فيه ما عانى مع هؤلاء الأوباش. وكاد الغضب والألم يأكلان روحه. وهو يفتح عينيه على سعتهما رافضا الإغفاء. يا ترى هل اصطفاني القدر لمسيرة عذاب طويلة، هكذا تساءل، ويكاد يتلمس الآن بيقين كيف أضحت أماله هباءً منثورا، وذهبت نشوته وأفراحه سدى.

عرض مقالات: