إلى الهادئ دائما نجاح الجبيلي

مقداد مسعود

هذه ثالث رواية سوداء أكتبُ عنها (امرأة سوداء في باريس) للروائية سناء أبو شرار. سعداء الدعاس وروايتها (لأني أسود) والآن رواية ضياء جبيلي(البطريق الأسود).

(*)

(البطريق الأسود) : رواية منسوجة من أوجاع البصرة  تتناول لحظة محلية مازالت طرية في ذاكرة أهالي البصرة. الروائي ضياء جبيلي ينطلق من أحداث حقيقية كابدتها البصرة ويمازج بين الحقيقي والخيالي بمهارة خبرته الروائية حيث تشع عناصر التشويق السردي.

(*)

الخطاب الروائي لا يخاطب من هم في الداخل فهؤلاء لا حول ولا قوة. مهما بذلوا من جهود. الخطاب الروائي موجهات ذاكرته نحو الخارج القوي المكين والتخاطب مع الخارج يتنوع منضوداً في سبع زجاجات:

الزجاجة الأولى والثالثة والخامسة والسابعة: تحتوي خطابا روائيا موجها ً إلى الرئيس الأمريكي أوباما

الزجاجة الثانية: إلى المنظمات النسوية في العالم

الزجاجة الرابعة: إلى اليونيسيف واليونسكو

الزجاجة السادسة: إلى إنجيليا جولي / المبعوثة الخاصة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين

والزجاجات لها عناوين:

الأولى (مارتن لوثر كينغ البصراوي)

الثانية (لماذا)

الثالثة (ولد كالقهوة)

الرابعة (أمي)

الخامسة (مولاتو)

السادسة (ملح أسود)

السابعة (البحث عن خميس)

السارد يستعين بهذه القوى لتنقذ ما يمكن انقاذه في الداخل. لكن هذه الجهات تتعامل مع العراق من خلال نسبة حصتها من ثرواته. وكذلك فأن هذه الجهات هي سبب خراب البلاد والعباد. مما جعل الرواية هي رواية الغياب القسري لكل من: جلال ذياب. دكتور خميس. والد الصبي الأسود. المعلم في المدرسة التي تعمل فيها أم الصبي الأسود. المرأة التي تستجدي في الشوارع. هروب الصبي الأسود من البصرة إلى تركيا. موت شوقية مصدومة خطف زوجها دكتور خميس الأغا.

(*)

الاشكالية اللونية يوجزها السارد المشارك بضمير المتكلم بنسق ثلاثي

  • أما أنا فكانت قصتي مع التشرد وقسوة الآباء حقيقية / 214
  • كل ما كنت أعيشه من صعوبة كوني أسود ينتظر أن يرقى به المجتمع إلى مكانة أعلى على سبيل المكرمة وليس الاستحقاق/ 259
  • كوني خليطاً من عرقيين مختلفين. إن ذلك يشعرني بأني دخيل وغريب/ 266

هذه الاشكالية كادت أن تتحطم من خلال تبني دكتور خميس للصبي الأسود، لكن اختطاف دكتور خميس. زاد الاشكالية تعقيداً. ومن جانب آخر ترى قراءتي أن التعادلية التي ارادها دكتور خميس لا قت صعوبات لم تكن على بال الدكتور. وقد بالغ الدكتور في تصنيع نموذج عابر للقارات من خلال الصبي الأسود!! إذ لا علاقة بين الرجل الأسود في البيت الأبيض من خلال رئاسة أوباما في الولايات المتحدة وأن يكون الصبي الأسود طبيبا في مستشفيات البصرة. لقد كان من المستحيل أن يستنم رجل أسود الحكم في أمريكا العنصرية. لكن لا توجد صعوبات تحول أن يكون المواطن الأسود لدينا طبياً ضمن الجيش الأبيض في مستشفيات البصرة. والمقارنة بين أوباما والصبي الأسود مقارنة مجروحة

(كان يرى دكتور خميس أنّحلم الأفرو عراقيين يتمثل بي شخصيا حين سأكون أول طبيب أسود فأبدو للناظر في حينها مثل بقعة سوداء تزّين الجيش الأبيض كما يُطلق على الكوادر الطبية عموماً../ 36).. لكن بطولة دكتور خميس تجسدت في تبني هذا الصبي الأسود المنحوس المنحدر من صلب رجل أبيض منزوع الأبوة والضمير (هجر والدي أمي ليتزوج من امرأة أخرى، وقت كان عمري ثلاثة أشهر ولا أمل في شفائي من الجفاف/ 66). أب بلا ضمير. وأم سوداء تعيسة لا العناية الإلهية معها ولا المجتمع :(لم تكن أمي تأمل بالكثير من المسرّات على الصعيد الشخصي، كنا نحن كل أملها، هي تعمل ما في وسعها من أجل الحفاظ علينا/ 90)

(*)

دكتور خميس يريد تحقيق ذاته هو من خلال هذا الصبي الأسود البئيس الذي يخبرنا (بدا وكأنه يريد فعلا أن يحقق بواسطتي ما عجز هو عن بلوغه، رغم أنه يحمل شهادة عليا في الفنون الجميلة/ 126)

(*)

يحاول الروائي ضياء جبيلي التنويع السردي فهو يبث سردا استباقيا للتمهيد بما سوف يتوسع في سرده في ص79 يومض اسم د. خميس (في الصف السادس الابتدائي، بعد الحرب، حينما أصبحت واحداً من عائلة د. خميس الآغا: (ربما سأحدثكم عنه لا حقا)

(*)

هناك تقطيع السرد وتصنيع برزخا سرديا بين البدء والختام كما هو الحال مع تلك الفتاة السوداء التي تمثل نموذجا تافها من الفتيات. يخبرنا عنها السارد في ص18 شتوة تظاهرة طلابية 2014 خرجت لدعم احتجاجات شعبية تطالب بإعلان البصرة إقليما وتحسين الخدمات ثم يخبرنا السارد المشارك بالتظاهرة وبالحدث الروائي كله (فحدث يومذاك أن التقطتُ من الأرض قصاصة صغيرة مطوية تحتوي على رقم هاتف).. حين تعثر شوقية وهي أمه الثانية على ما في جيوبه تخاطبه بحنو (خذ حذرك.. قد يكون ذكراً/ 19).. وفي منتصف ص21 ينقطع بث حكاية البنت والسارد وتعود موجهة السرد لمخاطبة أوباما... فجأة في ص240  ضمن فصل الزجاجة الخامسة)ملح أسود) والسارد يخاطب الممثلة/  إنجيليا جولي / المبعوثة الخاصة للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بعد اسطرٍ من الإطراء للدور الإنساني الذي تقوم به هذه الممثلة يخبرنا أنه تعرف عليها في سنته الجامعية الأولى (بفضل فتاة جمعتني بها علاقة ما بطريقة تعارف تقليدية أي من خلال الهاتف/ 240) ثم يسرد إليها وجيز علاقته بها ، من ص240 إلى ص260 فتتكشف أمام القارئ سلوكيات هذه الطالبة التافهة ولا أدري كقارئ لماذا كل هذا السرد المترهل!! والسارد المشارك يعي ذلك أيضا (وعلى العموم ليس هذا هو موضوعي. وإني لأرجو منك المعذرة لأني أسهبت في سرد أشياء دونما فائدة، إضافة إلى أنها استهلكت نصف رسالتي إليك/ 261)!!

(*)

التراسل عبر الزجاجة: لا يخلو من عبثية.  وهكذا نداء سيكون مخذولا. بسبب بطء العثور على الزجاجة ومَن سوف يعثر عليها. ليس بإمكانه تلبية النداء أو التخاطب مع المرسل. كأن الرسالة وظيفتها الوحيدة تفريغ المكبوت الشخصي إلى جهة مجهولة. من ناحية الهندسة الروائية فأن الروائي ضياء جبيلي اشتغل الرواية المتعددة الأصوات بطريقة معكوسة وجعل الصوت الواحد يبث خطابه الروائي إلى عدة جهات وكل هذه الأصوات بمثابة قوارب نجاة للصوت الباث الواحد الغريق.

(*)

الظروف الموضوعية طعنت القوة الذاتية لدى الشخصية المحورية في الرواية: (لم يكن التهديد وحده السبب وراء قرار الهجرة، بل هناك عوامل أخرى منها نفسية، فأنا مثلاً لم أعد أطيق العيش في مكان فقدتُ فيه كل شيء، أمي وشقيقتي ووالدي ّ بالتبني ومستقبلي وطموحي بأن أكون أول طبيب أسود في العراق.. / 267) وهكذا تغلّقت الأبواب ماعدا بحر إيجة وهو باب قد يوصل السارد المشارك في تصنيع الحدث روائيا إلى ما وراء الحياة بواسطة الزورق الذي يحتوي ركاباً أكثر مِن سعته ِ

ضياء جبيلي/ البطريق الأسود/ منشورات الهجان/ ط1/ بيروت/2021

عرض مقالات: