كانت رحلتنا إلى لبنان عبر الطريق العسكري، ولما وصلنا إلى بيروت سلمنا إلى رفاقنا الذين أسكنونا في شقة في منطقة الفاكهاني، وقيل لنا إنها سكن مؤقت لحين توفير سكن آخر، حيث أصطلح على تسمية هذه الشقة "المحطة" نقلنا منها إلى بلدة الدامور، وهي بلدة سياحية قديمة تقع على طريق المطار القادم من بيروت مطلة على البحر تعلوها تلال ومرتفعات انتشرت فيها معسكرات المقاومة الفلسطينية، من ضمنها المعسكر الذي نقلنا اليه التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حيث خضعنا للتدريب العسكري هناك للتعود على الحياة الصعبة التي تنتظرنا، وكان التدريب على يد أحد القادة العسكريين المحنكين الاختصاصيين في كيفية تفادي مخاطر حرب العصابات، وتكتيكاتها والأسلحة المستخدمة فيها، والتدريب استغرق أياما قليلة، وهو يكون في كل أيام الأسبوع عدا يوم الأحد الذي هو يوم العطلة الأسبوعية في لبنان. ودأبنا على ملئ فراغ يوم العطلة بالقيام بسفرة إلى الشواطئ والمرافق السياحية القريبة من الدامور، أو السياحة بنفس الجبال المطلة على المدينة ، ففي أحدى العطل الأسبوعية (يوم الأحد) زرنا منطقة يقال لها منطقة بين النهرين وهي منطقة جميلة فيها نهران ماؤهما عذب وبها مرافق سياحية ، افترشنا أرض الساحل بعيدا عن تلك المرافق السياحية يعني الساحل المجاني، وكان هناك رواد غيرنا من اللبنانيين، كانت بينهم عائلة لبنانية كبيرة ، جاء رب العائلة وهو كان بحوالي الخمسين من عمره أو أقل، سلم علينا واستئذاننا في الجلوس معنا وقال سمعت لهجتكم وعرفت منها بأنكم عراقيون فقد أعادتني هذه اللهجة إلى ذكرياتي بالعراق الذي كنت أشتغل فيه متنقلا بين بغداد والمدن العراقية الأخرى، وتعرفت على طيبة الشعب العراقي وعرفت بأن السياسيين في العراق اما شيوعيون أو بعثيون، وسألنا هل أنتم بعثيون لو شيوعيون فقلنا له نحن هنا في لبنان بسبب نظام البعثيين، ودعا عائلته إلى الجلوس معنا فاتضح إنهم من جنوب لبنان، وحكوا لنا عن معاناتهم أثناء الحرب الأهلية في لبنان و هم يسكنون في ذلك الوقت مع النازحين من الجنوب في بلدة ألأوزاعي، ويأملون في العودة إلى مدينتهم في الجنوب .

في نهاية رحلتنا هذه ودعنا العائلة الكريمة ، وتوجهنا مشيا عبر شارع جبلي مبلط مع الكثير من الماشين عبره فهو بحد ذاته منطقة جميلة وديانها عبارة عن غابات ممتدة على طول مدى البصر، وهذه الغابات أكثرها مزدانة بثمار لنكي دنيا التي نسميها عراقيا (عنك الدنية) وعلى طول الشارع اصطفت طاولات بائعي هذه الثمار من الفلاحين والمزارعين، التي يعرضون الثمار عليها وادعينها في صحون مختلفة الأحجام لبيعها على سطوح طاولاتهم، وعند وصولنا شارع بيروت استفلينا تاكسي إلى الدامور، لنجد رفاقنا المقاتلين الفلسطينيين محضرين لنا حفلة للتعارف .

تحليق الطيران الإسرائيلي

ابتدأ احتفال التعارف في القاعة الكبيرة للبناية التي تم اتخاذها كسكن أيضا، حيث تجمع المقاتلون الفلسطينيون الشباب، من معسكرات متعددة ،وكانوا بأعمار صغيرة وبأسماء ثورية ، جيفارا، وكاسترو، ابو الجماجم، ابو محمود …...الخ ، وكانت أسماؤنا متواضعة أمام أسمائهم، كانوا يعرفون أغنياتنا وأناشيدنا، وطلبوا منا غناء أغنية تشيلي تمر بالليل وأغنية عمي يابو الشاكوش ، كما هم يلفظونها.

وفي اليوم الثاني داومنا على نفس المنوال في التدريب ، وتأقلمنا شيئا فشيئا ، وكانت هناك المخاطر أيضا على حياتنا فقد زارنا الطيران الإسرائيلي وأخذ يناور فوق البناية ، ووجهنا أحد المقاتلين القدامى وهو كبير السن إلى مكان آمن إعتاد هو الاحتماء به، ولتمضية الوقت بدأ يحدثنا عن انتقاد زوجته له ، بأنه لم يستشهد لحد الآن، وكيف أنها تطلب منه القيام بعمل بطولي يرفع رأسها بين أرامل الشهداء، وهكذا تمضي بنا أيام الدامور وتختم الدورة بعد أن قضينا أياما قليلة ويتم نقلنا إلى الجنوب، فكان أن نسبنا أبو وفاء وأنا إلى قاعدة في صور وبقية الرفاق نسبوا ما بين صور وصيدا، القاعدة التي نسبنا إليها تقع في داخل آثار يونانية مليئة بالأعمدة الرخامية و فيها الكثير من قبور الجنود اليونانيين وصادف قبل وصولنا لها أن حام حولها، الطيران الإسرائيلي، وتصدت لها المقاومات الأرضية وأغلبها من نوع الدوشكا، فإحدى هذه المقاومات أصابت الطائرة، فعادت إلى إسرائيل تسحب وراءها دخان إصابتها، وتم إذاعة خبر إصابة الطائرة في جميع الإذاعات، وبقدر ما ارتسمت الفرحة بالقاعدة عامة وشعور المقاتل الذي أعطب الطائرة بالزهو وبالفرحة الغامرة خاصة بقدر ما ساد الحذر والحيطة ودخلت القاعدة بالإنذار والترقب وتوقع الانتقام الإسرائيلي، فبتنا ليلنا في المواضع وسمح لنا نحن الجدد بالذهاب إلى بيروت في صباح اليوم التالي وكذلك انتشر بعض المقاومين بعيدا عن قاعدتهم .

في بيروت توجهنا إلى شقة المحطة فكان الرفيق مسؤول منظمة حزبنا في لبنان يقابل الرفاق، وتمت مقابلتنا أيضا وعلى إثر ذلك نسبنا للعمل في بيروت وأسكنا في مكان غير المحطة وانتظمنا في العمل الحزبي، بالنسبة لي واظبت على مراجعة الأطباء لعلاج تأثير الأضراب الطويل عن الطعام عليّ فالأطباء الفلسطينيون لديهم الخبرة في متابعة هذا التأثير لكثرة المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية لفترات طويلة، وعلاجهم بعد إطلاق سراحهم.

العمل والسكن في العاصمة اللبنانية أتاح لي التعرف على جمهرة من المثقفين العراقيين ومن المناضلين الآخرين الذين سبقونا فيها، وكان هناك مكان يتجمع فيه الرفاق في منطقة الفاكهاني أطلق عليه اسم المسطر وبعد تبادل الأخبار والمعلومات يغادرونه كل إلى مبتغاه فكان يطيب لنا الرفيق فراس ابو ميديا وأنا الذهاب بعد نهاية الدوام إلى الروشة، والرفيق فراس هو زميلي في العمل في شعبة النقل وهو مهندس سيارات بارع وذكي ومتعدد المواهب، وكنا أول ما نصل الروشة نقصد محل ابو حلب لبيع القطايف والجلاب وهو شربت لذيذ منقوع فيه الصنوبر، وفي كثير من الأحيان نذهب إلى شارع الحمرا.

كانت شعبة النقل التي نشتغل بها الرفيق فراس وأنا تشغل جناح في عمارة رحمة التي تقع في منطقة الفاكهاني، وكنا فراس وأنا وكادر فلسطيني من الجبهة الديمقراطية اسمه ابو بشير، نشرف على الكراج التابع للجبهة ونقوم بإحصاء العجلات التي تدخل للتصليح في الكراج وإحصاء الأدوات الاحتياطية وقطع الغيار التي بدلت في السيارات وكل احتياجات الكراج من زيوت وغيرها، وقام فراس بعمل بطاقة لكل عجلة ، وسيارة.