عام 2023، أبى إلا ان ينهي نصفه الاول بأخبار محزنة وهذه المرة يختطف منا وردة حمراء اخرى. ففي يوم الخميس (4 ايار 2023) غادرنا في رحلته الأبدية الرفيق رحيم شيخ علي (حيدر)... توقف عن الخفقان قلب هذا المناضل الكبير والشيوعي الاصيل بعد اصابته بمرض عضال لم يمهله طويلا.

هكذا إذن داهمك الموت يا صاحبي رغم انك  كنت تراوغه بعبورك الدائم للكمائن القتالة ، وأنت الذي تكره الموت دون ان تخافه، متسلحا بحكمة الجواهري الكبير حين قال:

 أنا أبغض الموت اللئيم وطيفه    بغض طيوفِ مخاتل نصّــاب

ذئب ترصدني وفوق نيــــوبه    دم اخوتي وأقاربي وصحابي

    في كل المحطات التي عمل فيها الفقيد (حيدر) كان موضع احترام وتقدير وثقة رفاقه وأصدقائه، وواصل عطاءه الثر رغم كل المحن والظروف الصعبة وتعقيداتها، وبقي لصيقا بحزبه وشعبه على الدوام. وفي كل تلك المواقع كان العزيز (أبو بلند)  يحملُ الحزبَ في قلبه، حالما دوما بوطن مفعم بالحياة والأمل والمستقبل. وقد كانت حياتهُ على امتدادها الواسع درسا كبيرا وملهما لأجيالٍ عديدةٍ من رفاقه ورفيقاته.

    إنها لمضيئة تلك المحطات الثورية من حياة (حيدر) التي "امتدت من اضراب عمال الزيوت عام 1968، حيث كان أحد قادة هذا التمرين الطبقي، والكفاح في الحركة الأنصارية (وهو تمرين بالذخيرة الحية هذه المرة !) أواخر الستينيات وفي فترتها اللاحقة أواخر السبعينيات، مرورا بسجون ايران وزنازينها الانفرادية في أوائل الثمانينيات، وتحديه الأسطوري للجلادين، ومشاركته الفعالة في انتفاضة آذار 1991". كل ذلك أهلهُ لأن يكون شخصية اجتماعية وحزبية مرموقة. 

    هكذا اذن في يوم الخميس الحزين (4/5/2023) طارت طيور النوارس تنقل خبر رحيل (ابي بلند) لأحبته في طول الوطن وعرضه وفي المنافي، وفي هذا اليوم بالذات اصطف صنوبر كردستان ونخيل البصرة، وعنبر الفرات، وانحنت جبال كردستان، تحيي جميعها موكب ابنها البار المسافر نحو الخلود.. الى عالم الشمس والحقيقة والدفء الأبدي.

    ها أنت يا (حيدر) تركتنا وغادرت مبكرا بعد ان توقف عن الخفقان قلبك المطرز بالمحبة الصادقة وأنت الذي كنت تحلمُ بوطنٍ حرٍ تنام على ضفافه دون ان يطرق بابك زوار آخر الليل، وبشعب سعيد لا يطارد لقمة الخبز ولا يئن تحت سطوة العسف. ولكن لا تحزن يا صاحبي...فغداً ينبت العشب والزهر فوق ضريحك، وفي وعينا ووجداننا ينبت صوتك منتصراً لوطن بهي وجميل كنت تحلم به وتناضل من أجلة ستة عقود ونيف.

    ها انت ترحل وتترك فينا ذكرياتك وما اكثرها وما أجملها، تحمل سطوة محبتك التي تتوهج فينا مثل لؤلؤة نحرسها ونلملم حولها بقايا أرواحنا المسكونة دوما بمحبتك، وأنت تودعنا بهدوء في سفرتك الأبدية، كأن المكان الجميل هو القبرُ حيث المودةُ صافية والهدوء عميق.

    أيها الكبير (ابا بلند).... في مثل هذه اللحظات الصعبة حيث نودعك نحن اهلك رفاقك ورفيقاتك واصدقاءك ومحبيك، نشتاق جميعا الى فوانيسِ روحك المبتسمة دوما تضيء لنا أرواحنا المكلومة والملتبسة بمحبتك. ها أنت كعادتك تتسلل هذه المرة أيضا عبر الحشود وتغادرنا بهدوء، تودعنا كزهرة، ترحل في سفرك الأبدي وتأخذ معك عشقك للحمائم والنخيل والبردي والعنبر والصنوبر.

    ايها الرفيق العزيز (ابا بلند) لا شيء هنا في صقيع الغربة يخدش السكوت غير ذكرياتنا وصورك وضحكات مساءاتنا وصخب نقاشاتنا الهادئة مرة والعاصفة مرات. نعرف ان كلماتك ستضل باقية برغم صيرورة الزمان ونكد الايام، نشتاق الى فوانيس روحك تضيء لنا حزننا واعماقنا المكبوتة.  لن ننساك ايها الذاهب في شتاء البياض، فانت من سيفاجئنا خارج مساءاتنا الموحشة في الغربة. ثمة صرخات تكسر ضلوعنا حزنا على رحيلك المفاجئ، لكنك تكبر فينا صديقا كبيرا، ورفيقا عزيزا وانسانا راقيا، كما يكبر فينا الوطن والحزب كل يوم. ايها العزيز الذي رحلت عنا في يوم حزين باكٍ.... لك المجد في ذكراك العطرة... ولاحبتك جمال روحك وطيبة قلبك. في رحيلك نحمل لك باقة ورد حمراء ونوقد شمعة ونسمع في وداعك مطر قادم وربيع آت.

    لقد رحلتَ وفي عيوننا منك صورة الصديق الصدوق، المبتسم دوما، والحامل للفرح الآتي والمتعلق بأمل الصباحات البيضاء الندية القادمة. (ابا بلند) العزيز، كم من الوقت سيمر لنعترف بهذا الغياب، ونتجاوز ارتباك اللحظات التي يأتي فيها اسمك مقروناً بالرحيل. سنظل نتعلق بأهداب هذه الذكريات، كلما التفتنا صوب الأماكن التي اعتدنا اللقاء فيها، وبغداد المكلومة وكردستان ومدن العراق المختلفة الحزينة برحيلك سترمم حزنها بمزيد من الحزن المشتبك بالأمل. (حيدر)، الآن وبعد ان رحل جسدك، ستضل روحك باقية تمارس حياتها بنشاط: تقرأ، تستمع، تجادل، تكتب بصبر وأناة، وضحكتك الشفيفة لا تبارح أيامنا، فأنت المجبول من طيبة هذه الأرض الطيبة... المرصع بثقل أحجارها الكريمة .

    سنوات كاملة من الذكريات التي لا يمكن ان تنسى، كما لا يمكن ان تذكر بكل تفاصيلها، مرت يوم الخميس المصادف 4/ايار/2023 كومضة برق، لان (حيدر) سافر هذه المرة من دون وداع، ومن دون أمل بلقاء آخر وجلسة سمر أخرى.

    أمام هذا المصاب الجلل، لا يمكن لنا نحن الذين تناثرت أشلاء أرواحنا بفقدان (أبي بلند)، إلا ان نحني هاماتنا تحية الوداع الواجبة ، لهاته القامة المديدة التي ظلت باسقة كنخيل العراق الممتد من زاخو حتى الفاو مرورا ببغداد وعكَد الاكراد وباب الشيخ، ومن الرمادي حتى خانقين، شامخة كشموخ جباله، نقية كنقاوة نهريه العظيمين، مرفوعة تعانق سماء الحقيقة، تتحدى الطغاة والجلادين.     

    ختاما، صادق التعازي القلبية الحارة لعائلة الفقيد الكبير رحيم شيخ علي (حيدر)، الى زوجته الفاضلة السيدة (ام بلند) والى ابنتيه العزيزتين انتظار وفيان والى ولديه الحبيبين بلند وبيار وأقاربه وأصدقائه وكل رفاقه ومحبيه الكُثر، مقرونة بمشاعر التضامن الصادقة معهم جميعا في هذا المصاب الجلل. ولحيدر الجميل مجد المناضل الكبير وسحر كلماته وذكراه المتقدة دوما.

حيدر نفتقدك... وهل يعزينا فرح أهل السماء بك أو حزن أهل الأرض برحيلك؟

لقد خسرتَ مع الموت لعبة المفاجأة هذه المرة...فقد قرر أن تنام نومتك الأبدية.

لكننا لن ننساك يا (أبا بلند) لأنّ الورد يظلّ يعبق برائحة الحياة ولا يكل.

    أيها الرفيق الكبير (حيدر) وداعا، وسلاما على نخيلِ العراق وشطيه وجباله الشامخه، وسلاما على الوطن الذي أنجبَك ولم يبارحك لحظة ! لك مجد الشيوعي الاصيل والوطني الصادق والأممي الثابت وذكراه النبيلة.

    نَم أيها الصديق العزيز والرفيق الاصيل قرير العين مطمئنا فستنعم بالذكر الطيب دوما وستبقى حياً من خلال أعمالك ومواقفك الوطنية والأممية والحزبية الناصعة، فكنت مثالا يُلهِم ويُقتدى، خلقا ودأبا وشجاعا في قول الحقيقة والدفاع عنها. لقد تركت لنا تراثاً ثريا سيظل يتحدث عنك، ويذكّر بك، ويبقيك حياً دائم الحضور بيننا.

5/5/2023

عرض مقالات: