كانت قد حددت ليلة 16/17 ـ 9ـ 1982 على أنها التوقيت الملائم من حيث ساعات الدجى للوصول إلى أولى المحطات في الجانب التركي وكذلك إتمام جميع المستلزمات هناك، هكذا تم الاتفاق. يقول الرفيق سعيد: بعد ظهر يوم 13 أيلول أي قبل العملية بأقل من ثلاثة أيام أرسل المهرب شقيقه (أبو ليلى) إلى القامشلي ليفاجئني بأن المعلومات الواردة من مجموعته في الجانب التركي غير مشجعة أمنياً لعبور الحيوانات وتكتنفها مخاطر جمة! ويضيف الرفيق سعيد: (أنا أوعدتك أن أقص عليك فقط الحالات التي واجهتنا فيها المشاكل، أما الحالات التي مرت من دون المشاكل فهي كثيرة وكلها تقريباً متشابهة، ومع ذلك سيأتي دورها فيما بعد).

سبق أن أُوْعَزَ سعيد إلى الرفيق خالد سليمان بنقل البغال إلى منطقةٍ قريبةٍ من مسرح العملية؛ وكان خالد قد نقلَ فعلاً البغال لـ (11) ليلاً يوم قبل إرسال المهرب شقيقه إلى القامشلي ليخبر الرفيق سعيد بالتغيرات الجديدة؛ ووزعهم في قريتين قريبتين من المكان المتفق عليه؛ والمشكلة أن قرى المنطقة لا تتحمل (أمنياً) بقاء هذا العدد من البغال فيها لفترات تتجاوز بضعة أيام في أحسن الحالات. أما في القامشلي كل شيء بات جاهزاً، رفاق المفرزة ومعهم الرفاق الجدد والحمولات، الكل بانتظار موعد السفر.

أخذ سعيد معه شقيق المهرب إلى قرية (سرم ساغ) للقاء بقائد المجموعة (محمد حجي خليل) لاستدلال الموقف والمستجدات ومراجعة ما قرروه سابقاً؛ بعد مناقشة المعلومات والمعطيات من الجانب التركي؛ التي كانت تدل على خطورة عبور الحيوانات. أرتأى الأثنان واتفقا على تجنب المجازفة، وقررا استثناء البغال هذه المرة وتأجيلها إلى مرة أخرى، وبدلاً عنها زيادة عدد الرفاق الجدد بحيث يكون العدد الكلي مع قسم من أعضاء المفرزة (25) رفيقاً. في نفس اليوم أوعز سعيد إلى خالد سليمان بإعادة البغال بالسرعة الممكنة إلى مرابطها في تل كوجر أو أية قرية أخرى بعيدة عن الأنظار قبل كشفها، وتم استثناء عدد من رفاق المفرزة من السفر وإبقائهم في القامشلي تحسباً لفرصة أخرى قد تسنح لإرسال البغال التي تم تأجيلها معهم.

وبشعور لا يخلو من الشجن يقول الرفيق سعيد: مجداً للرفاق في الحزب الشيوعي السوري وكذلك لأصدقائنا ومحبي حزبنا، بعد أربعون عاماً، والذكر الطيب للذين غادروا منهم دنيانا والصحة والعافية والعمر الطويل لمن بقي على قيد الحياة. كانوا ملاذنا في المُلِمَّاتِ وظهيرنا في المواقف المحرجة، وأنا في هذه الدوامة من القلق، لا أعرف كيف نقلوا ووزعوا واستوعبوا هذا العدد من البغال في قراهم!

رجع سعيد إلى القامشلي ووضع أمر المفرزة بالصورة والاتفاق الذي جرى مع المهرب، ثمّ تم تجهيز خمسة عشر رفيقاً من الملتحقين الجدد بحيث أصبح العدد مع رفاق المفرزة خمسة وعشرون رفيقاً، وسيكون العبور في التاريخ السابق المتفق عليه.

قبل ظهر يوم تنفيذ العملية أبلغ الرفيق سعيد عنصر الاتصال بينه وبين المخابرات العسكرية أحمد بدران عن توقيت ارسال المجموعة عبر الحدود التركية، وكان هذا من المتعارف عليه مرافقة احمد بدران بسيارة المخابرات للحماية وعدم تعرض نقاط التفتيش لهم، إن وجدت في الطريق، أضافة إلى إيصال قسم من الرفاق بسيارتهم. وقُبيل غروب الشمس وحلول الظلام وصلت السيارتان إلى وادٍ قريب من منطقة العبور وبمنأى عن أبراج المراقبة التركية وعن الفضوليّن من سكان القرى القريبة كذلك. ولما وصول سعيد ورفاقه إلى الوادي كان قسم من الأدلاء قد سبقوهم إلى هناك. عندئذٍ طلب سعيد من أحمد بدران العودة إلى القامشلي لعدم الحاجة لوجوده.

وبعد أن تجمع الكل في الوادي، وهم بانتظار قائد المجموعة محمد حجي خليل وشقيقه أحمد حيث كانا يراقبان نقطة العبور قبيل غروب الشمس وهبوط الظلام من مكانٍ ملائمٍ لاستطلاع حركة الدوريات وأوقات مرورها في المنطقة وتبديل عناصر المخافر والكمائن، وكانا قد فعلا الشيء ذاته في مساء اليوم السابق للعملية ايضاً.

يقول الرفيق سعيد: بعد إتمام التحضيرات و معي الرفاق خيري القاضي وفارتان شكري وعلى ما أظن إن لم تخنِ ذاكرتي (سلام موسى مسؤول مخازن الأسلحة) نترقب عودة المهرب الرئيسي من مكان الاستطلاع حيث يبعد عن الوادي أقل من نصف الساعة سيراً، لقد تأخر للعودة إلى الوادي بعض الوقت لدرجة انتابنا شيء من القلق عليه وعلى مجمل العملية، بعد قرابة ساعة وصلا الأثنان إلى حيث نحن في الوادي وعتمة الليل قد أطبقت علينا، ما أن رأينا خيالهما حتى تسرعنا وبلهفة للسير لملاقاتهما، في البداية لزم المهرب الصمت للحظات وهو يلهث من سرعة السير اثناء العودة، ونحن على أحر من الجمر لسماع ما ينبئنا بها من نتائج الاستطلاع ومشاهداته وتوقعاته، وأخيراً نطق، وتراءى له ان الظرف الأمني لم يكن مناسبًاً تلك الليلة للعبور، وبات علينا تأجيلها إلى يوم غد.

هكذا تم تأجيل العملية إلى اليوم التالي. كان تأجيل تنفيذ عمليات عبور المفارز من على الحدود أمراً طبيعياً ويصادف مرات عديدة؛ لأنّ عملية العبور ليس سهلة مع الأعداد الكبيرة من الرفاق، بالرغم من الإجراءات الاحتياطية التي يتم اتخاذها عادةً تحسباً له. يقول الرفيق سعيد: إلا أننا كنا محظوظين هذه المرة لأننا كنا قد تحررنا من البغال وأجلنا عبورها إلى وقتٍ أخر، لأن تأجيل عبور المجاميع مع الحيوانات تترتب عليه مشاكل ومصاعب كثيرة. كان من اليسير عودة كل شيء في جنح الظلام إلى موقعه، بيد أن اصعبها نقل الحيوانات وهي محملة بالسلاح من مكان إلى مكان أخر دون إثارة انتباه المخافر التركية وكذلك بعيداً عن أعين الفضوليّن من أهالي القرى (وهم شر البلية لأن الخبر يشاع من خلالهم في اليوم التالي كالنار في الهشيم)، أما نقل الرفاق والادلاء فليس فيه صعوبات كثيرة.

رجع الأدلاء إلى قرية (سرم ساغ) وحدد موعداً لليوم الثاني. نقل سعيد الرفاق على وجبتين، يقول الرفيق سعيد: نقلتُ الوجبة الأولى ومعهم الرفيق خيري القاضي إلى قرية (تبكيه) التي تبعد حوالي نصف الساعة عن مسرح العملية وتقع على مفرق الطريق نحو فيش خابور والمالكية باتجاه الحدود العراقية. أوقفتُ السيارة أمام بيت الرفيق حجي رشيد (بالمناسبة وهو ليس بحاجٍ وإنما أسمه حجي) ترجلتُ منها وطرقتُ الباب، (حجي) نفسه فتح الباب ورحب بي وتعانقنا بحرارة، قلتُ له عندي ضيوف لك هل لديك محل لإوائهم هذه الليلة ويوم غد وعددهم (خمسة وعشرون رفيقاً) أبتسم ونظر لي وباعد بين كفيه راسماً علامة الاستغراب على وجهه قائلاً: (مانو عيب تحكي هيك يا رفيق سعيد البيت كله تحت تصرفكم أد ما تريدوا أهلاً وسهلاً بالرفاق المناضلين). ويضيف الرفيق سعيد: بظرف أقل من ساعة نقلتُ الرفاق جميعاً إلى بيت حجي رشيد، وتجنباً لتحرك سيارتنا نهاراً في المنطقة وخشية من رصد تحركاتنا قام الرفيق السوري (مصطفى) من قرية (سرم ساغ) بسيارته بالتواصل بيننا وبين الأدلاء الذين ودعناهم في بيته، وبقي معي على ما أعتقد (أبوسامر) رجعنا إلى القامشلي.

في اليوم الثاني أُعيدت عملية اليوم السابق وعبرت المجموعة بسلام وبدون أية مشاكل.
بعد سفر المجموعة انصب التفكير بعده في إرسال البغال لـ(11) بالسرعة الممكنة؛ لأن الإمكانيات في الحدود لعبور الحيوانات كانت تضيق يوماً بعد يوم؛ ووجدت المحطة والمفرزة نفسهما في سباق مع الزمن لأن السلطات التركية شرعت في نصب الأعمدة لوضع الإنارة الدائمة في المناطق التي يستغلها المهربون لعبور الحيوانات وباتت المحطة تفكر بضخ أكبر كمية ممكنة من السلاح بواسطة البغال إلى مقرات الحزب في كوردستان قبل إتمام تلك الإجراءات.

يتبع ...

عرض مقالات: