مثلما انتقلت العوائل الفقيرة في سنوات الستينات الأولى الى حي الإسكان الكائن في صوب الشامية في مدينة الناصرية، انتقلت عائلة العم أبو عادل الى بيت صغير ضمهم جميعاً، الأم والأب وسبعة أولاد وثلاث بنات، وذلك في الركن الذي سلمت فيه البيوت للمدنيين. وفي الطرف الآخر كانت بيوت العسكريين من أصحاب الدخل المحدود. هذه البيوت تبرعت بها حكومة ثورة 14 تموز الى الكادحين مدنيين وعسكريين، على أن يدفعوا قسطاً شهرياً بسيطاً من رواتبهم ثم يصبح البيت ملكاً لهم.

كان البيت ضاجاً بالشبيبة الإخوة وهم بأعمار متقاربة، فبنوا علاقات واسعة من الصداقات الدائمة مع شبيبة الحي، حتى أصبحنا معهم كإخوة وليس فقط كأصدقاء. وصرنا نلتقي بهم في المدرسة وفي ساحات اللعب وفي المتنزه القريب من سكننا وفي النهر الذي نسبح فيه وهو الفرات الجميل.

 ولما كبرنا معهم صرنا نرتاد المقاهي والكازينوهات، وصرنا نلتقي ببعضهم في خلايا الحزب الشيوعي العراقي وفي لجانه.

و منذ عامي 1978 و1979 ابتدأت حملة شرسة كما هو معروف ضد تنظيمات الشيوعيين، فتمزق شملنا وضاعت أخبار بعضنا عن الآخر ومرت البلاد في مرحلة معتمة جداً، امتلأت فيها السجون والمعتقلات واختفى من استطاع الإفلات من قبضة الجلاوزة المارقين، خاصة من فروا الى العاصمة بغداد وضاعت أخبارهم .

 في مدينة الناصرية لم يبق من لم يكتوي بنار الديكتاتورية، وما من عائلة في هذه المدينة الباسلة إلا وفقدت أخاً أو قريباً أو شخصاً عزيزاً عليها، وصار في كل بيت تقريبا نائح ونائحة، خصوصاً أيام الثمانينات وبعد انتكاسة انتفاضة آذار من عام 1991.

وهنا اتحدث عن عائلة العم طارش داود أبو عادل الذي فقد خمسة من أولاده السبعة واحداً تلو الآخر، وهم جميعاً في مرحلة الشباب وعنفوانه، مدنيين وعسكريين.

وكان أول الشهداء ابنه صباح وهو عضو في الحزب الشيوعي، وكان قد انخرط في قوات انصار الحزب في كردستان فترة من الزمن، ثم تسلل الى الداخل ليعمل في تنظيمات الحزب المدنية السرية. وكان متزوجا حديثاً من الشهيدة سحر أمين التي كانت حاملا في شهرها السابع، حينما وقعت مواجهة بين زوجها ومفرزة من ازلام النظام سقط فيها شهيداً، وجرحت هي وأنجبت في السجن ثم جرى إعدامها بعد ذلك. وتم تسليم جثة الشهيد صباح الى ذويه في يوم 30 تموز عام 1984 ومعها شهادة الوفاة من قبل دائرة أمن الناصرية بتاريخ 5 تموز عام 1984 مذكور فيها السبب للوفاة وهو اصابته بطلق ناري! وأن وفاته حصلت في حزيران عام 1984 كما هو مثبت في وثيقة الامن العامة لمديرية ذي قار.

وفي 23  كانون الأول 1984 عادت أجهزة السلطة لتعتقل أشقاءه محمد رسول (وهو إسم مركب) ورياض الذي كان مدرس جغرافية، وعلي الابن الأصغر حسب تسلسل الاخوة، بتهمة قيام أخيهم الأوسط محمد بتنظيم عسكري يعمل لصالح الحزب الشيوعي العراقي وشراء الأسلحة (حسب التهمة) !..لاغتيال المحافظ ومدير الأمن في المحافظة.

لذلك نفذ حكم الإعدام في محمد وفي رفيقه مهدي النجار في يوم 15 حزيران عام 1985 وتم استيفاء ثمن رصاص الإعدام من عائلتيهما!

 يذكر أن الشهيد مهدي النجار كان مع الشهيدين صباح وسحر حينما وقعت المداهمة ضدهم في نفس البيت وتم أسره مع  الشهيدة سحر!

أما الأستاذ رياض فتم زرقه بمادة كيمياوية تؤدي الى الموت البطيء وذلك في مديرية أمن الناصرية في إحدى المرات التي تم فيها استدعاؤه من قبلهم، وكان معه الأستاذ ماجد حنتوش الذي مات بنفس الطريقة. أي أنهما سقيا من نفس المادة السامة، وكان الاخير من شباب حي الإسكان ايضا. علما انه تم فصل الشهيد رياض من وظيفته بناء على أمر إداري صادر من المديرية العامة لتربية ذي قار، وحسب توجيهات الجهات الأمنية بالمحافظة بكتاب يحمل الرقم 4229 صادر في يوم 27 أيار عام 1985.

وقد نص الكتاب على “توقيف السيد رياض طارش داود مدرس متوسطة الفاروق للبنين” كما تقرر حسب الكتاب: أولاً سحب يده من الوظيفة اعتباراً من 21 كانون الاول 1984 أي من تاريخ توقيفه لأمور تتعلق بالأمن العام! ثانياً إعادته للوظيفة اعتباراً من 12 أيار 1985 وهو تاريخ إطلاق سراحه والافراج عنه لعدم كفاية الأدلة كما هو مذكور في الكتاب! الذي وقعه عامر محمود ناجي المدير العام. لكنه على أية حال استشهد إثر استدعائه وسقيه مادة قتلته خلال أيام .

أما الأخ الأصغر علي فتم إصدار حكم بسجنه خمس سنوات بتهمة التستر على زوجة أخيه الشهيد صباح أي الشهيدة سحرأمين والتي اعدمت هي أيضاً في يوم 14 نيسان عام 1985، بعد أن أخذوا الطفل الذي ولدته في الخدج من يديها ولم تره مرة أخرى وللأبد!

وبعد الانقضاض على الاخوة صباح ومحمد ورياض وسحر زوجة صباح، توجهوا نحو ملاحقة أخويهم العسكريين عادل ومرتضى، فتم نقلهما الى الخطوط الامامية للجبهة في الحرب العراقية مع إيران، وتمت تصفيتهما فيها. حيث استشهد الاخ الأكبر عادل في منطقة نهر جاسم بتاريخ 11 كانون الثاني عام 1987، واستشهد مرتضى بتاريخ 23 آذار عام 1988 في السليمانية في منطقة حلبجة، واستلمت العائلة شهادة وفاته التي ذكر فيها يوم الوفاة وهو   23 آذار  عام 1988 كما جاء فيها ان سبب الوفاة جروح في الصدر والحوض والساعد الأيسر!

هكذا وخلال فترة قصيرة بين عامي 1984 و 1988 ودعت العائلة خمسة من شبابها، الذين كان يزدان بهم بيتهم ويمتليء بهجة ونضارة. فتركوا بغيابهم غصة كبيرة في قلوب والديهم وأخواتهم الثلاث وبقية الإخوة والرفاق والأصدقاء، الذين عاشوا ولا زالوا بعد فراقهم بحزن وألم. وقد التحق بهم بعد ذلك والدهم المسكين، ثم ماتت والدتهم قبل بضع سنوات.

وكان حزني شديدا عليهم، خاصة على الشهيد صباح زوج أختي الشهيدة سحر، الذي كان من رفاق حزبنا الشيوعي النشطين في تنفيذ مهماته في الخلايا الحزبية الطلابية وفي لجان اتحاد الطلبة. كذلك كانت لي علاقة صداقة ومحبة واحترام مع الأستاذ رياض، فكنت اذهب معه ومع عدد من أصدقائنا الى كازينو السلام على شاطيء الناصرية في سنوات السبعين، ونبقى نتسامر فيها ساعات، خاصة في الصيف. فكان بمثابة الأخ والصديق الحميم.

 أما الشهيد مرتضى فكان حين يعود الى البيت في الإسكان في إجازة عسكرية لمدة قد تصل أحياناً الى أسبوع أو أكثر، يمر على بيتنا فنلتقي ويطلب مني تزويده ببعض الكتب من قصص وروايات او كتب ثقافية، ينكب على مطالعتها ثم يعيدها لي. وكنا أحياناً نتناقش حول ما قرأه فيها، ثم أودعه حين يعود الى وحدته العسكرية، آملاً منه العودة السريعة ليستلم من مكتبة بيتنا ما يراه مناسباً للتزود بالثقافة .

كان إنساناً طيباً جداً وحلو المعشر، خجولا ومؤدبا. ولم اكن اتصورأنني لن أراه أو الشهيد رياض أو الاخوة الآخرين مرة اخرى.

كم هي بليغة هذه الجروح التي حفرتها حكومة البعث الصدامي في نفوسنا، فنغصت علينا عيشنا وراحتنا واورتنا الاحزان. لكنها لم تدرك أنها بما اقترفت جعلتنا نفتخر يوما بعد يوم ونرفع رؤوسنا عاليا حين تأتي سيرة هذه الكوكبة البارة من أبناء شعبنا البواسل، الذين جادوا بحياتهم في سبيل حياة أفضل للشعب العراقي .

تحية محبة واحترام للشهداء الأماجد، الاخوة الاحبة عادل ورياض ومرتضى وصباح ومحمد رسول، وتحية إجلال للشهيد مهدي النجار والشهيدة سحر وجميع شهداء الشعب العراقي البواسل.

إنتم مفخرة ورفعة راس لنا، وستبقون في وجدان بنات وأبناء شعبنا العراقي الى الابد. 

عرض مقالات: