في العشرين من آب 2020 مرت الذكرى الاربعون لمعركة فـُرضت علينا وكانت دفاعاً عن النفس، حدثت بين أنصار الحزب الشيوعي واصدقائهم مع القوات التركية المهاجمة، في منطقة جبلية مرتفعة قرب الحدود العراقية التركية شمال شرق قرية (بيجي).
قبل هذا التاريخ (20 آب 1980) بحوالي ثلاثة ايام، كُلفنا من مسؤولي مفرزة الطريق بالتوجه من موقع اختبائنا في الجبل، الى نهر الهيزل لأستلام شحنة اسلحة مع مجموعة من الرفاق الملتحقين الجدد لنقلهم الى مقرنا في وادي(كوماته)، بعد الظهر بدأنا بنبش الرمل بالأيدي على حافة النهر حيث تم دفنها، ثم حمّلناها على 14 بغل، وبعد العمل المرهق لعدة ساعات بدأنا المسير مباشرة، كنـّا ستة رفاق من مفرزة الطريق (ابو جهاد (قاسم محمد مشل) الذي استشهد لاحقاً في العمل السري داخل الوطن، سامي دريجه، هادي، أبو مناف، أبو نرجس، أبو أنتصار) والرفاق الجدد (أبو ستار، أبو منتصر، مهدي، أبو نضال الأصلع)، ومن الأصدقاء عبدالله واخوه الشهيد صوفي (استشهد لاحقاً) وسبعة من شباب المنطقة من الفلاحين.
بعد مسير لساعات في الجبال والوديان بدأ يهطل الظلام الذي حوّل الطبيعة الى اشباح، ونحن لا نعرف شيئا عن المنطقة ومسالكها سوى الأدلاء، اصاب التعب الجميع ولكن الرفيق (مهدي) بدأ يعاني من صعوبة في المشي، طلبت منه أن يضع ذراعه حول رقبتي لأسند جسده واساعده في المشي، سألت الرفاق: ماهي وجهتنا؟ فقالوا: الى قرية في هذا الوادي. قلت: استمروا وسألحقكم على الاُثر. فوصلنا بعدهم بنصف ساعة تقريباً مرهقين!
اهالي القرية قدموا لنا الطعام، والعلف للبغال، وبعد ساعات قليلة بدأنا المسير فلا يجوز البقاء طويلاً فالمخبرين متواجدون حتماً! في الظلام كانت تتطاير ومضات شرر كالشهاب من حوافر البغال عند اصطدامها بالحجر البازلتي الصلد!صعدنا الى أحد الجبال وحل علينا الفجر ببرودة منعشة.
آمر المفرزة أبو جهاد والمستشار سامي سألاعن رأيي بما قررا، بأنهما سيرسلان الرفاق الجدد مع دليل يسلكون طريقاأسهل، فقد تعبوا ولا يستطيعون المواصلة معنا لأننا سنسلك طريقا صعباوأطول، رأيهما صائب من جانب ومن جانب آخر رفضت حيث قلت: كيف نثق ثقة تامة بدليل لا نعرفه، بالأضافة لذلك رفاقنا غير مسلحين ولا يعرفون المنطقة، ماذا سيفعلون عند حدوث طاريء ويتركهم الدليل وينهزم؟! أنا أفضّل بقاءهم معنا حفاظاً على حياتهم،
قالا: أن الاصدقاء يعرفون الدليل جيداً ولا بد من ارسالهم، حسم الأمر بأرسال الرفاق (أبو ستار، أبو منتصر، مهدي) وأبو نضال يبقى فهو يستطيع المواصلة معنا، طلبت من الرفاق الجدد تسليمي وثائقهم (جوازات وشهادات جامعية)، غادرونا وتوجهوا عبر الوديان الى قرية (بيجي) ونحن استمرينا نحو القمم الشاهقة مبتعدين عن القرى ووجود قوات الحدود.
على منبسط اخضر واسع فوق أحد الجبال، قرر آمر المفرزة أن نستريح وإنزال حمولة البغال فقد اصابها التعب، ولعدم خبرته لم يحسب حساب أن المكان مكشوف وممكن مجيء طائرة استطلاع! أنا كلفت بالحراسة فصعدت قمة صغيرة قريبة، وبعد وقت أقل من ساعة، شاهدت من بعيد طائرة هليكوبتر تحوم في المنطقة، صرخت لأحذرهم، فأمر أبو جهاد بتحميل البغال والتحرك!!! وهذا كان خطأ كبير فالحركة تسهل كشفنا! كان المفروض توزيع الرفاق على القمم لغرض الاختباء واتخاذ وضع الدفاع، وتمويه الحمولة قدر الإمكان بالحشائش وابعاد البغال باتجاهالوادي!
بعد بضع مئات من الأمتار كانت الهليكوبتر تطير منخفضة فوق رؤسنا مباشرة وافتضح امرنا، فأصبح مواصلة السير لا معنى له، وأيضاً لم يعطي الأمر بالانتشار على القمم! اختفت الطائرة حيث هبطت الى قاعدة لقوات الحدود (القرقول) في قرية بيجي وبعد وقت قصير، عادت وبدأت بأنزال الجنود على سفح احدى القمم الخمس المنتشرة والتي يتراوح ارتفاعها 50 – 70 متر، كانت مبادرة الرفيق هادي ذكية ولعبت دورا مهما في انقاذ ارواحنا، حيث سبقنا بمسافة جيدة وأصبح بين قمتين وأشرف على جهة الأنزال ثم لحقه الرفيق أبو جهاد، اصبحت الحالة حرجة جداً وبلا توجيهات عليك أن تتصرف لاتخاذ وضع دفاعي!ركضت وتبعني أبو نضال وهو بلا سلاح، متسلقاً بأتجاه القمة التي يجري خلفها الانزال محاولا السيطرة عليها قبل الجنود! وصلنا قرب القمة وبدأ الرمي بغزارة حيث فاجأهم واشتبك معهم الرفيق هادي، قررت العودة بسرعة وربما لن نعود فظهرينا مكشوفين وأصبح الموت قاب قوسين! في تلك اللحظة سحبت كيس النايلون ودسست وثائق الرفاق تحت أحد الأحجار المنتشرة لكي لا تقع بيد الجنود، قطعنا ساحة المنخفض وتسلقنا القمة المقابلة وأصبح وضعنا أفضل، حيث انتشر الرفاق والمرافقون من الاصدقاء على اربع قمم وانحشر الجنود في قمة واحدة!كان الرفيق أبومناف قد سبقنا الى القمة والتي تحوي قطوعا حجرية توفر بعض الحماية، مرت الهلكوبتر منخفضة أمامنا والطيار ومرافقه واضحان للعيان يستطلعان وجودنا، رشقهم أبو مناف بصلية، ابتعدت الطائرة ولم تعد، قررتُأن اصعد فوق قمة الصخور لأتخاذ وضع أفضل للرماية، ارتكبت خطأ بأن تسلقت من الجهة المكشوفة للجنود، فرشقوني بصلية من رشاش متوسط، فتوزع الرصاص حول رأسي وبين فخذي ليصطدم بالحجر محدثاً شظايا، شعرت أن بندقيتي الكلاشنكوف غير مصفّـرة فكان عليّه حساب ذلك عند التسديد! جاء الينا أبو جهاد وقال: أهنيك على سلامتك توقعت أنك استشهدت!
لاحظت أن أحد المقاتلين من الأصدقاء قرب الحمولة المطروحة على الارض المكشوفة، ناديته بأن يأتي ألينا بعلبة عتاد، فتحتها فكانت لسلاح متوسط لا تنفع للكلاشنكوف، سألت أبو جهاد إن كان هناك قناصات مع الحمولة فالعتاد لها، فأجاب بالنفي، في المقر لاحقاً علمت بوجودها ومن النوع القديم ولكنها ممتازة، يبدو أن أبو جهاد ايضاً لايعلم بها!!
بدأ الجنود بالرمي بأتجاه البغال لقتلها، فردينا عليهم واسكتناهم، استمرت المعركة ما بين السابعة صباحاً حتى السابعة مساءً حيث حل الظلام، تجمعنا قرب البغال وتم تحميلها، لم تحدث بيننا خسائر سوى جرح بسيط بساعد عبدالله، أما القوة المهاجمة فلم نعلم عن خسائرها.
قال أبو جهاد: سأذهب ومعي الرفيق هادي للمقر لتبليغهم بما جرى ليرسلوا قوة دعم! كان المفروض أن يرسل رفيقا آخر ويبقى هو لأنه آمر المفرزة؟! كما أن هادي الوحيد من رفاقنا يعرف الكردية أي تركنا مشلولين لغوياً!!
لاحظت عدم وجود الرفيق أبو نرجس فسألت عنه، قال أحدهم أنه من بسبب شدة التعب وهو يعاني من مشاكل في المعدة لم يستطع مواصلة المشي فبقي مطروحاً على الحشائش، وعلمت لاحقاً أنه انسحب بأتجاه الوادي لأحدى القرى فساعدوه للوصول الى المقر!!تفاصيل الحدث لدى الرفيق العزيز أبو نرجس.
بقينا أربعة (سامي، أبو مناف، أبو انتصار، أبو نضال) مع مجموعة عبدالله 6-7 افراد، تحركنا بأتجاه الشرق صعوداً الى قمة جبل اعلى، وبعد مسير أكثر من ساعة تم إنزال الحمولة وتغطيتها بالأحجار، افهمنا عبدالله بأنه ومجموعته مع البغال متعبون وسينسحبون الى إحدى القرى وغداً مساءً تصلكم مجموعة اخرى مع بغال جديدة، وبقي معنا منهم اخوه صوفي.
قضينا الوقت جلوساً بين الاحجار وبرودتها تلسع اجسادنا المنخورة من الأجهاد! بزغ الفجر فأنتشر أمامنا مشهد جميل، قمم لاتنتهي على مد البصر، وواحدة هي الاعلى والاقرب لنا تزينها الثلوج الناصعة البياض، لاحظت على حافتها الحادة نقاطا سوداء مصطفة بانتظام، تفحصتها من خلال الناظور، وأذا بها مجموعة من النسور الكبيرة آكلة اللحوم، ياترى هل اشتمت رائحة اجسادنا وأنتظرت وليمة دسمة؟!
مرة اخرى حومت الهليكوبتر في المنطقة تبحث عنا، ولكنهم لم يكتشفوا مكان وجودنا، عند المساء وصل القرويون مع البغال ليتم تحميلها والتوجه نحو الوادي الذي تقع فيه قرية (هدريش)، عند المسير انتبهت الى أن أحدهم والذي كان يمتطي بغلاً قوياً يسير به بسرعة ليسبق المجموعة بمسافة، شككت بأنه يسرق من البنادق ويخفيها بين الاحراش مستغلاً الظلام، حاولت اللحاق به بدون فائدة! لاحقاً في المقر عرفنا أن هناك نقص حوالي 12بندقية؟!
بعد مسير طويل هبوطاً التقينا بمفرزة دعم من رفاقنا وصلت من المقر واتذكر منهم الرفيق أبو فارس، اخذنا فترة استراحة حتى بعد الظهر، ثم واصلنا المسير لندخل قرية (هدريش) عند الغروب، أهالي القرية ضيّفونا ولم نمكث طويلا لنواصل المسير الى مقرنا في وادي كوماته.
في المقر أحزننا خبر أن الرفاق الثلاثة الملتحقين، خبأهم الدليل خارج قرية (بيجي) في كهف صغير مكشوف للوادي الضيق الصاعد الى القمة التي دارت بها المعركة، وهناك بالصدفة التقوا أيضا بالرفيق (أبو حازم) القادم من المقر بمهمة، اثناء المعركة وكقوة دعم توجهت مجموعة من الجنود، بأتجاه القمة من خلال الوادي واكتشفوا وجود رفاقنا الأربعة فاعتقلوهم، ولم يطلق سراحهم إلا بعد سنوات.
طلبت من الرفيق توما توماس (أبو جميل) أن يبعثني مع أي مفرزة تذهب الى قرية (بيجي)، وفعلا بعد شهر تحقق ذلك حيث ذهبنا رفيقان بمهمة، الى نفس الكهف الذي اعتقل به الرفاق لنلتقي بشخص!! ومن هناك صعدت برفقة شاب من القرية الى قمة الجبل الشاهق، في ساحة المعركة ذهلت لكثرة الأحجار، بدأنا بتقليبها حجراً حجراً، بعد زمن دبّ الشك في نفسي وقلت إننا لن نجدها! ثم جاء صوت الشاب هاتفاً بفرح “وجدتها... وجدتها”.
تأكدت من أن الوثائق سالمة، هبطنا للكهف ثم توجهنا أنا والرفيق لمقرنا في (كوماته)، وهناك سلمتها للرفيق أبي جميل وشعرت بسعادة كبيرة لأني حققت ما وعدت به الرفاقان احافظ على الأمانة.

عرض مقالات: