هي مشاجرة، أقلّ من عادية، هرعت بعدها شرطة النظام المقبور إلى تفتيش البيوت الحزينة في قرية (جيزاني الجول) بأعالي الخالص فعثروا على بندقية غير مرخصة في دار ختيارٍ تعرفُ القرية أجمعُها سيرته البيضاء ألا هو "أبو ماجد"… أخذوا أبا ماجد مع أداة الجرم إلى سراي الخالص.. أودعوه التوقيف.. حرروا الأوراق التحقيقية بعد استجواب صوري.. أطلقوا سراحه بكفالة شخص ضامن على أن يحضر أمام القاضي بعد أسابيع ثلاثة…
حضر ابو ماجد وهو لا يدري بأنّ رهطاً من صحبه ومن أكابر عشيرته قد سعوا خيراً له… تكرمةً لماضيه النقي، وحاضره الأنقى، وعرفاناً لصفو العلائق وحميم التآخي، وتودداً أو تحسباً من بعض الساعين ليوم أسود قد يصيبهم (وأصابهم ـ اللهم لا شماتة) فيجدون في أبي ماجد حمالةً لخطاياهم الكثر، وحاشاه.
حضر المحكمة أمام القاضي (صائب البياتي) وكاتبة تحرير المحكمة، فإذا بالقاضي يملي عليها بعد ديباجة مكررة معادة معروفة:
- …. وحسب كتاب شعبة الخالص لحزب البعث العربي الاشتراكي.. المرقم كذا… في كذا… تبيّن أنّ البندقية الكلاشنكوف نصف الأخمص المرقمة ( … ) هي عائدة للشعبة أعلاه، لذا أمرنا نحن قاضي…
وقبل أنّ يكمل عبارته، قاطعه أبو ماجد بأدب جمّ، وبتوازن جميل:
ـ عفواً سيدي القاضي.. لا صحة لما وصلك…
• ماذا؟
ـ كما أقول لك يا جناب القاضي… لا صحة لما وصلك… فالشعبة الحزبية تكذب… وأنا من أوائل الستينات قد استضافتني سراديب حامية السليمانية، ونقرة السلمان، وسجن بعقوبة، وسجن الكوت، وسجن الحلة، وأقبية قصر النهاية والأمن العامة، لست على أيما استعداد أن تقول قريتي المقهورة أنّ شيخها العتيد قد جَبُنَ.
وضع القاضي الحكيم قلمه على الطاولة.. وببطء قاتل سحب نظارته، وأخذ يداعبها، وهو ينظر مليّاً لجبل واقف على قدمين أمامه… أطرق برهة.. تململ.. أرخى عقدة ربطته حتى قال:
• يا عم.. إنّ كاتبة الضبط هذه، هي قريبتي.. فلا يساورني خوف لو أشرت عليك بأمر أمامها.. يا عم.. أني أعلن تضامني معك.. ولذا أطلب منك ان تأتيني بأحد أولادك كي أحكمَ عليه بدلاً منك.. فهذا أقصى ما أقدر عليه.. وحسبي الله في ما أقضي…
ارتضى البطل الأشيب استشارة القاضي، فذهب إلى البيت، وما ان دلفه حتى نادى على ابنه البِكر ـ ماجد ـ الذي تعدى عقده الثالث بسنتين.
ـ ماجد
• نعم أبتاه
ـ اذهب بعد غد إلى المحكمة، وسيصدر عليك حكم بالحبس، تحمله يا بني… فهذا أهون من أن يقال أنّ أباك الذي اجترح الرفض الشيوعي منذ عقود سحيقة قد لانَ عوده.. هيهات أن يقال عن مُربّيك وأبيك (أبو ماجد صار بعثي!).
أبو ماجد، هو (مهدي حسين مهدي الربيعي) من علية أهالي قرية (جيزاني الجول) المعروفة بـ (حلبچة العرب)، وحدث ما حدث عام 1996، والخالص قاطبة تشهد بإكبار على هذه المأثرة التي قلما تُثنّى...
وامتثل الشاب ماجد لتوجيه أبيه أو قل مسؤوله، فأفلح، وارتكن زاوية في سجن بعقوبة، السجن نفسه الذي ضمّ صفوة هم الاكثرين من أبناء شعبنا المكافح الصابر طوال الحقب السود، وما أكثرها من حقب سود في تاريخنا، بقي الشاب ماجد شهوراً ستة في معتقله الذي لم يخلُ يوماً من مثلائه، من رفاقه، بل من قادة حزبه وشعبه، وها قد ذهب السواد الشمولي، وذهب الغراب، وبقي كيان حركتنا الوطنية نقياً بشهدائه، بقاماته، بنسائه، بأسماء أعضائه وأصدقائه، وأحبابه، ومنهم شيخنا الجليل "أبو ماجد"، ختيار محافظة البرتقال.