أول من أسس دولة عميقة في العراق وحمل عارها هو حزب البعث منذ انقلابه الدموي في شباط 1963. ثم طورها بعد عودته الى السلطة عام 1968، خاصة في زمن القائد الضرورة، حيث كانت الأجهزة القمعية هي صاحبة الكلمة الاولى والأخيرة في الملف الامني (باشراف الطاغية طبعاً) أما الوزارات الامنية والحكومة بكاملها وما يسمى بالمجلس الوطني، فلا دور لهم سوى المصادقة على ما يتخذ من قرارات.
وحسب نظرية إعجاب الضحية بالجلاد (وهذا يشمل البعض من ذوي الأيمان المتزعزع بقضيتهم، والمستعدين دوماً للتخلي عن المصلحة العامة صوب الخلاص الفردي) والسعي للتشبه به وتقليده، لجأ الحكام الجدد بعد 2003 الى استلهام هذه التجربة الشاذة (اي الدولة العميقة) فتدرجوا في تكوينها، ونحتوا من صخورها بناءً شامخاً، لم يصادر القرار الأمني فحسب، وإنما القرارين السياسي والاقتصادي أيضا، وجعلوا من حالة اللادولة القاعدة والأساس في الهيمنة على مقدارات الشعب العراقي، ونهب خيراته وجره عنوة الى الحضيض.
وكما تفعل القوارض، لم يتركوا زاوية او جحراً، إلا ودسوا أنوفهم فيه. إقتصادياً إستولوا على الريع النفطي وتقاسموه في ما بينهم، تاركين الشعب يعيش الفاقة والحرمان. وتحكموا بعجلة السياسة فأداروا مقودها كما يشاؤون، وصار عبور الحدود لعبتهم المفضلة! وأمنياً لم يستطع أحد أن ينافسهم، لا من المؤسسات الرسمية، ولا من خارجها. وقد اعتمدوا في عملية توطيد دولتهم العميقة وعدم المساس بها، على ثلاث روافع أساسية، هي سياسة التجهيل أولاً، وما يرافقها من شحن طائفي وتزوير وإشاعة للفساد بشقيه المالي والأداري، فضلاً عن المحسوبية والمنسوبية، وإعتماد الولاءات الحزبية والشخصية في إسناد الوظائف العامة، بدلاً من الكفاءة والنزاهة والوطنية. الثانية تأسيس شبكة واسعة من الميليشيات والمجاميع المسلحة، لحماية مصالحهم الأنانية وديمومة بقائهم في السلطة، بمباركة وإسناد قويين من خارج الحدود. والثالثة تجسدت في التعامل مع الاحتجاجات الجماهيرية بالعنف وإستخدام القوة المفرطة، ناسفين بذلك الدستور العراقي الذي يتمشدقون به ليل نهار، وما فعلوه بمنتفضي اكتوبر البواسل، واستشهاد المئات من خيرة الشباب العراقي، على أيدي حكومة “عادل عبد المهدي” وما يسمى سخرية بالطرف الثالث، مازلنا نعيشه بكل تفاصيله.
ولتكميم الأفواه، ومنع أية مبادرة جماهيرية، وأي إحتجاج على فشلهم الذي لا شبيه له في إدارة الدولة، وتحويلها عملياً الى خيّال مآته، أفردوا لعمليات الاغتيال السياسي والخطف وتغييب الناشطين، حيزاً مهماً في نهجهم الإجرامي المدمر. واللافت أنهم يعملون على إنتقاء العناصر والشخصيات المؤثرة سياسياً وإجتماعياً، والقادرة على استقطاب العراقيين وزرع الامل في نفوسهم، وآخرها إغتيال الأكثر كفاءة وخبرة أمنية وسياسية وحباً للعراق وشعبه، المناضل “هشام الهاشمي” في تحدٍ سافر للحكومة، وللكاظمي تحديداً، واستهتار بكل القيم الأخلاقية والإنسانية.
إن هذا المخطط الجهنمي الذي جعل من تصفية كفاءات العراق وعلمائه ومثقفيه هدفاً له، بدءاً من الطيارين والاطباء والمهندسين والأكاديميين والمثقفين العضويين، وكل من يسعى للحفاظ على العراق وشعبه، كما يحافظ على حدقات العيون، لابدّ من مجابهته بكل الامكانيات المتاحة وإيقافه عند حده، لأنه يهدف الى إضعاف العراق وإفراغه من كوادره وكفاءاته، لتسهل على أعدائه بالتالي الهيمنة عليه، وإستنزاف ثرواته، وحتى كرامته.
وهذا الهدف النبيل والمصيري لن يتحقق، ما لم يقلع السيد الكاظمي عن التردد، ويستند بكل قواه الى جماهير الشعب العراقي، خصوصاً المنتفضون الذين لن يبخلوا بجهد ولا بتضحية لتحقيق ما يصبو إليه العراقيون المكتوون بنيران هؤلاء الإرهابيين.

عرض مقالات: