قبل أيام قرأتُ رواية (العمى) للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، يتحدث فيها عن وباء غريب يصيب الناس في مدينة، ما يجعلهم يتصرفون كالبهائم، بل أكثر، في سبيل بقائهم أحياء رغم عماهم،وفي الصفحة الأخيرة، طبيب العيون الذي كان من أوائل الذين فقدوا بصرهم اثر الوباء، وبعد عودة بصره، يصف حالهم وطريقة عيشهم عندما كانوا عمياناً،لزوجته التي لم تُصَبْ بالوباء، بل ظلّت المبصرة الوحيدة في المدينة وشاهدت كل شيء، يقول لها : ( لا أعتقد أننا عَمينا، بل أعتقد أننا كنا عمياناً أصلاً، عميان يرون، بشر يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون )!
هذه العبارة جعلتني أتوقف كثيراً، وأتأمل حال الناس في العالم هذه الأيام، الذين يواجهون أزمة كورونا، حيث انقطعت سبل الحياة، وتوقفت الحركة تماما، وانعدمت اللقاءات بكل أشكالها، الاعتماد فقط على الهاتف النقّال والانترنت ليكون التواصل من وراء عوازل وسواتر !
تأمّلت وَضْعَنا الحياتي بشكل عام قبل ظهور الوباء، وتحكّم العنف، الحقد، الكذب، الغش، الخداع، الظلم، القتل، السحت الحرام، الفساد بكل أشكاله في حياتنا، ما أشاع خراباً في النفوس والضمائر والبلدان، وقلت في سرّي : هل سنتغيّر بفعل هذا الوباء، ونصير أفضل مما نحن عليه الآن، لأننا واجهنا الفناء بشكل عام، وبصف واحد لا فرق بيننا أبداً !
استذكرت قول الكاتب الفرانكفوني أمين معلوف في إحدى مقالاته حول أزمة كورونا : ( أكاد أجزم أن ما يحصل اليوم هو في الواقع دعوة الاستيقاظ التي احتجنا إليها لتجمع أنفسنا من جديد ونعيد التفكير في المغامرة البشرية بأكملها ) !
نعم ما الذي جنيناه من بثِّ النعرات الطائفية والكراهية بين الناس، غير المزيد من الخراب وسفك الدماء؟!
وما الذي جنيناه من الفساد ونهب ثروات البلد، غير المزيد من الأزمات والتدهور والانحطاط في كل شيء؟!
لهذا وكما يقول الكاتب نعّوم تشومسكي: (المهمّة التي تواجه المواطن المسؤول تكمن في واجب تغيير العالم) !
ولكن كيف سيكون التغيير، وكما يؤكد الفيلسوف الهندي آمارتيا سن :ـ (أي عالم يمكن أن نتوقّعه بعد الوباء، وهل سنكسب شيئاً من تجربة المقاومة المشتركة للأزمة؟!) !
الكلّ يواجه نفس المصير، فأي مجتمع سنكون بعد انحسارها؟!، يقول آمارتيا سن: (هل يمكن أن يظهر مجتمع أفضل بعد انتهاء أزمة كورونا، وهل سيحدث شيء ايجابي بسبب هذه التجربة المؤلمة؟!).
علينا أن ندرك ما فعلناه سابقاً ونصحح مساراتنا، وأساليب حياتنا، لنجعل منها علامات للمحبة الإنسانية، لا أن نظل شواهد خراب وتباعد وفرقة، كلامنا، أفعالنا، خلافاتنا، طعننا لبعضنا في الظهر والخاصرة، توحي وكأننا في حلبة مصارعة، كلها لا تمت للثقافة الإنسانية بصلة، بل هي ترسبات مجتمعية وبيئية أكل الدهر عليها وشرب، لا تؤدي بنا إلاّ للخراب أكثر فأكثر!
لنعمل كما تقول الكاتبة فرانسوا ساغان في روايتها (الابتسامة): (إذا أراد المرء أن يعيش أقصى تجليّاته، عليه أن يرتّب نفسه ليكون سعيداً أكثر ما يمكن)، لن نكون سعداء وننقذ وطننا من الخراب إلاّ إذا رمينا كل ما يبعدنا عن بعض في سلة المهملات !
ما حصل من خلافات وتباعد بسبب ما فعله ويفعله السياسيون لحاجات في نفوسهم المريضة، علينا أن نرميها جانبا، ونفتح قلوبنا وأيادينا لنحتضن بعضنا بروح التسامح والمحبّة والتآخي والوئام والبناء والخير، وان نكون قد أخذنا درساً بليغاً من هذه الجائحة وتعلّمنا الكثير!