منذ بدء الخليقة، والى يوم الناس هذا، وعجلة الزمن تدور، سنوات تجرّ سنوات، وعقود تتلو عقود، وقرون تمسح اخرى، لتصير ماضياً يحمله التاريخ في طيّات الكتب والآثار على محمل التذكار حسناً أو قبيحاً!
فلكل فرد، بل كل شعب ومجتمع وطائفة ماضٍ، حتى الحيوان والجماد، ماضٍ قد يكون مشرقاً وسعيداً وجميلا، أو مظلماً وتعيساً وقبيحا، قد يكون بناءً وعمراناً وسموّاً، أو خراباً ودماراً وضياعا، لكنه يبقى ماضياً، بكل ما له وما عليه، تعود اليه الأمم بين الحين والآخر لتستمدّ منه العِبَر والأفكار والرؤى، أو تجعله ركناً منسياً بمرور الايام!
وإذا تأملنا الشعوب على مختلف مشاربها وأطيافها، نجدها قد جعلت من ماضيها مثابة انطلاق الى الأمام، وأساساً قويا شيّدت عليه حضارتها الحديثة المختلفة الاصناف والأنواع، اذ ابتدأت بنيان مجتمعاتها وبلدانها طابوقة طابوقة، رغم الحروب والدماء التي مرّت بها، ورغم كل شيء لتفتح نوافذ للعلم والمعرفة والبناء والتطور سواء كان عمرانيا أو علميا أو صناعيا وزراعيا وفنيا وما شابه ذلك. إلا نحن، صرنا نتعكّز على ماضينا، دون الاخذ بكل ما فيه من دروس وعِبَر، كأننا بلا حاضر، ولا نفكر في المستقبل ابدا؟!
حاضر بائس ومستقبل مجهول، لم نأخذ من الماضي سوى الفخر والاعتزاز بما شيّده الاجداد، والذي هدمناه بجهلنا، وصراعاتنا على المناصب والمصالح والمغانم، دون التفكير بما سيذكره التاريخ عنّا بعد حين!
قبل ايام ذهبت مع عدد من اصدقائي الى مدينتي الأم ، ومسقط رأسي ــ الفاو ــ تلك المدينة الغافية عند تخوم البحر ، ورغم أنني أعرف ما جرى لها وعليها من حوادث ، لكنني بكيتُ ما أن وصلت اليها ، حيث استعدت بذاكرتي ماضيها قبل الحرب الرعناء التي أشعلها الطاغية أرعن القرن العشرين ، كيف كانت زاهية بكل شيء ، بيوتاتها ، اسواقها ، مكتباتها ، نواديها ، سينماتها ، نخيلها ، اشجارها ، سواقيها ، ماؤها المنساب بين السواقي ، وكيف أضحت عليه الان بعد خرابها وطمس معالمها بالكامل ، بل مسحها من خارطة الكون ، لتبنى مكانها مدينة عشوائية بلا تخطيط او دراسة معمارية ابدا ؟!
ومثل الفاو الكثير من المدن والأحياء والأماكن والآثار والبنايات التي زحف عليها الخراب والهدم بحجة البناء الحديث متناسيا التاريخ، لتغدو صورا في ذاكرة ابنائها الطيبين!
كما اندثرت العادات والتقاليد الحسنة المتوارثة التي تنمّ عن ضمائر حيّة وعقول راجحة وقلوب مليئة بالمحبة والخير ونكران الذات والتعاون والإيثار وما الى ذلك من صور البناء والعمران في النفوس والأماكن وقتها!
صرنا الان نتذكرها ونتحسّر عليها، لأن النفوس تغيّرت والقلوب تحجّرت والضمائر ماتت، ليستشري الفساد في كل مفصل، وتطغي المصلحة الخاصة والأنانية والطائفية والخراب!
علينا أن نتأمل الماضي لنبدأ بإصلاح أنفسنا اولاً وبعدها المجتمع والمدن والبلاد، كي نلحق عجلة التطور والتقدم، لأنها تدور بسرعة جدا، ان لم نلحقها سنظلّ نراوح في مكاننا نلهج بماضٍ لم نعش فيه، بل عاش اجدادنا وهم الذين صنعوه، فضيعنا خطانا وصرنا نتلمس دروبنا عبر دهاليز مظلمة من الجهل والفساد!
فسبب حنيننا الى الماضي الذي لم نحيا فيه، هو بؤس الحاضر وخرابه وغموض المستقبل ومجهوليته، علينا أن نعي هذا جيداً ونعمل على اصلاحه بكل شيء!!
ولتكن انتفاضة شبيبتنا وشعبنا المتواصلة ضد الفساد والمحاصصة بداية لعملية الاصلاح هذه، وهي تشيع الامل في إعلاء كل ماهو سامٍ ومضيء في ماضينا وحاضرنا.