أول اشارات تردي الوضع الثقافي في اي بلد تتمظهر في فعاليات أبي الفنون "المسرح"، وهذا ما طفح على سطح وضعنا الثقافي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بعيد انتهاء الحرب العراقية الايرانية، وما تلاها من سنوات، شهدت انتعاشا مريبا لعروض مسرحية هابطة شكلا ومضمونا، سميت بالمسرح التجاري، أمام تراجع واضح للتفاعل مع المسرح الجاد.
قبل تلك السنوات كانت الفرق المسرحية الأهلية تشكل منافسا جادا لمسرح الدولة، الذي كان يلهث للحاق بها! فتجارب فرقة المسرح الفني الحديث ومسرح اليوم والمسرح الشعبي، ما زالت تملأ الذاكرة بأعمال ابداعية شكلت جزءاً مهما من تاريخ وتراث المسرح العراقي والعربي على حد سواء.
فرقة المسرح الفني الحديث " مسرح بغداد "، على سبيل المثال لا الحصر، كانت عروضها تستمر لأشهر عديدة، ويأتي لها جمهور المتفرجين من المحافظات القريبة والبعيدة، ولكن مع تردي الوضع السياسي، في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وانقضاض سلطة البعث على كل نشاط تقدمي أو يساري، حال دون أن تستمر الفرق الأهلية التقدمية بنشاطها.
ولكن هل خلت الساحة تماما في تسعينيات القرن الماضي من تجارب مهمة؟! بكل تأكيد لا يمكن أن تخلو الغابة المتوحشة من وردة هنا أو زنبقة هناك، رغم انف مقص الرقيب وعيني ضابط الامن، الذي يحدد صلاحية هذا العرض من عدمه!
لقد أقيمت مهرجانات مسرحية وثقافية عديدة في تلك الفترة، ولكنها أقيمت وفق أجندات يراد منها خدمة النظام فحسب ولا يمكن السماح لأي نوع من أنواع " مسرح الضد " أو " قصيدة الضد "!
وعلى مستوى المسرح، فقد كان النص يمر على الرقيب أولا، والعرض يحدد صلاحيته رجل مخابرات! والويل الويل لمن يحاول أن يسير عكس هذا الاتجاه!
المخرج المسرحي المعروف غانم حميد اخرج مسرحية "المومياء" وهي من تأليف الكاتب عادل كاظم، ورشحت هذه المسرحية للمساهمة في مهرجان ربيع المسرح العربي في المغرب عام 1994، وفي عرضها الاول في " كازبلانكا" أضاف المخرج الى العرض الأغنية المصرية الشهيرة " مين قالك تسكن في حارتنا وتشغلنا وتقل راحتنا"!
وعلى اثر هذا العرض استدعى السفير العراقي، آنذاك، المخرج ليتأكد منه إن كانت المسرحية بشكلها الحالي قد حازت على إجازة الرقيب!
اما قصة غانم حميد مع مسرحيته الأخرى " الهذيان" المعروفة لكتبة التقارير أو الشهود من الوسط الفني والذين ما زالوا على قيد الحياة!
لقد كانت المهرجانات المسرحية في العراق، حالها حال المهرجانات "المربدية"، تجري على نفس السياق الذي يحاول أن يؤمن خلو تلك المهرجانات من اي نفس معارض أو مشاكس أو مختلف مع خط الحزب والثورة!
أما اليوم فإن الفنان والكاتب والمثقف ينعم بحرية تعبير لا مثيل لها في اي بلد عربي، بعد أن تم كسر اقلام " الكتبة" والواشين والنمامين وبعد ان دفن، إلى الابد، مقص الرقيب في مزبلة التاريخ!
وهذه واحدة من نِعَمِ " التعددية "، فلا بَطَلَ أوحد ولا قائد ضرورة، بل هو الشعب وطليعته المثقفة من يرسم ملامح وطن جديد.
(ملف بمناسبة 27 آذار يوم المسرح العالمي على الصفحة الخامسة "ثقافة").