منذ أن زرع سيئ الصيت "بريمر" بذرة الفساد في العراق، وسلم السلطة إلى من كان يمتلك استعدادا فطرياً للعمل "سركالاً" لديه، والأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، فلم يعد الفساد غابة فحسب، بل تحول البيدر إلى ما هو أكبر وأوسع حجماً، من الحقل الذي أنتجه، لان البيئة الجديدة كانت صالحة تماماً لانتشاره، وتشجيع الآخرين على الخوض في أوحاله.

كانت الشركات الأمريكية التي جاء بها الاحتلال، بمثابة فرس الرهان لإشاعة الرشوة والفساد في التعامل مع مثيلاتها العراقيات، ومع من بيده الحل والربط من المتنفذين، في مسعى خبيث ومبيت سلفاً لنسف الشعور الوطني، وبناء قاعدة سياسية واجتماعية تكون صمام أمان للهيمنة، ولما يسمى بـ "الفوضى الخلاقة".

ولان الدولة لم تعد دولة بالمعنى المتعارف عليه، انتشر هذا السرطان في الجسد العراقي الرسمي والمجتمعي بسرعة قياسية، لكن تشخيصه جاء متأخراً، بل أن البعض مازال ينكر وجوده، أو يلقي مسؤولية تمدده على القدر وسوء الحظ وأحيانا على مؤامرات أجنبية، تريد سحب بساط "السعادة والرفاهية" من تحت أقدام الشعب العراقي الذي يرفل بها، ويحسده عليها الآخرون!

لقد اضطر المسؤولون العراقيون إلى رفع شعار مكافحة الفساد المالي والإداري، تحت ضغط الحركة الجماهيرية والتظاهرات الغاضبة في ساحة التحرير وبقية المدن والمحافظات، وحاولوا أن يجعلوا منه جواز مرور لكسب ود العراقيين وتضليلهم، لاسيما أثناء فترات تشكيل الحكومة، والانتخابات بشقيها البرلمانية والمحلية، دون أن يكون لديهم إيمان حقيقي بالتصدي لهذه الآفة الخطيرة، أو الحد من أضرارها المدمرة في الأقل.

وحتى الذين امتلكوا شيئاً من الجدّية والرغبة في مكافحة الفساد، سرعان ما تخلوا عن طموحهم ونواياهم، من اجل الحفاظ على مناصبهم ومواقعهم الوظيفية، ولم

يفعلوا شيئاً سوى الاكتفاء بصيد بعض الأسماك الصغيرة لتكون أكباش فداء للحيتان والتماسيح الغارقة في مستنقع الفساد الآسن حد العفونة والرائحة التي تزكم الأنوف.

أن الفساد المالي والإداري والسياسي وتوأمه المحاصصة بتفرعاتها العديدة، هما السبب الرئيس في كل ما يحصل في عراقنا المنكوب، بدءاً من الإرهاب والطائفية، إلى اجتياح "داعش" للأراضي العراقية، وصولاً إلى إفراغ خزينة الدولة من آخر دينار فيها، فضلاً عن غياب الخدمات، وعمليات التزوير وشراء الذمم، سبيلاً للاستحواذ على كرسي في البرلمان، أو في مجالس المحافظات أو السلطة التنفيذية، وتوظيفها لخدمة مصالحهم الشخصية الأنانية.

آخر الفضائح الكبيرة، كارثة العبّارة، التي راح ضحيتها أكثر من (100) بريء، كانوا يمنّون النفس بشيء من الفرح والبهجة، لكن الجشعين كان لهم رأي آخر. وكعادتها اكتفت السلطات المسؤولة بتقديم العزاء وتشكيل لجنة تحقيقية، يأمل الجميع ألّا يكون مصيرها كسابقاتها.

إن مأساة العبّارة، كشفت بما لا يدع مجالاً للشك عن هشاشة نظامنا السياسي، وحجم الخراب الشامل الذي يلف حياة العراقيين، والاستهتار بمصائرهم.

ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى، هو تحلي صناع القرار السياسي بالشجاعة والإرادة الصلبة، للبدء بعملية الإصلاح والتغيير. وأول خطوة فيها هي محاربة الفساد بأنواعه المختلفة، دون تهاون أو خوف من أحد وكفى جعجعة، فالناس تريد أن ترى طحيناً هذه المرة.

عرض مقالات: