الموصل غاضبة ولا أحد يلوم ابناءها على ذلك. فبعد قراءة متمعنة في التقرير النهائي الصادر عن لجنة تقصي الحقائق النيابية عما يجري في الموصل، يتوصل المرء الى استنتاجات عدة، لعل أهمها ان الاوضاع فيها مرشحة الى المزيد من التفاقم والتوتر. فقد ختمت اللجنة تقريرها بتوصية عامة، جاء فيها:

 "تإشر لدينا ومن خلال قيامنا بالتقصي عن الحقائق في عموم المحافظة ، وردود فعل الأهالي، وجود مؤشرات احتقان طائفي خطير سببته الممارسات السلبية ، ما ساعد على تردي الوضع العام في المحافظة ، وظهور ما يسمى بيعة جديدة لداعش الإرهابي واستنهاض عناصره مرة اخرى ، وحصول هجرة عكسية من قبل اهالي المحافظة وبالأخص اصحاب رؤوس الأموال والكفاءات ، مع نفور واضح من التعاون مع الأجهزة الأمنية ، كما اكد لنا ذلك بعض قادة الأجهزة الأمنية، مما ولد انطباعا لدى عموم المواطنين بإن المحركات التي انتجت داعش، بدات تستعيد نشاطها وتنهض من جديد، سيما وان الممارسات التي تحصل لا تختلف من حيث الأسلوب  والمضمون عما كان يجري قبل عام 2014 ".

لقد دقت اللجنة ناقوس الخطر بوضوح كاف، لمن يريد ان يسمع. وربما لا يختلف عن حال الموصل الحال في محافظات اخرى، عانت من سيطرة داعش وتركته الثقيلة، فيما حركة الدولة بمؤسساتها كافة، والحكومات الاتحادية والمحلية وحكومة الإقليم، بطيئة جدا، بل وأبطأ من السلحفاة، وتكاد في احيان كثيرة لا تلاحظ. فالمناطق المتحررة توا من داعش تئن تحت ثقل جرائمه وما سبّبه من مآسٍ وكوارث، فيما لم يبدأ الإعمار واعادة الخدمات اليها الا لماما، والكثير من القليل المتحقق اعتمد على معونات ومساعدات من الخارج.

ويستدل على هذا بشكل لا لبس فيه من حجم التخصيصات في موازنة ٢٠١٩، المخصصة لإعمار هذه المناطق والتي لم تتجاوز خمسة في المائة من حاجة الموصل مثلا، فيما تقدر قيمة اعادة الإعمار والتعافي في تلك المناطق بأكثر من ٨٨ مليار دولار أمريكي، وفقا لتقارير عراقية حكومية ودولية، وفِي الموصل وحدها تقدر تكلفة اعادة الإعمار بما بين ٣٠ و٤٠ مليار دولار أمريكي حسب تصريح للأمين العام لمجلس الوزراء. 

وتزيد الامر تعقيدا ممارسات وسلوك بعض الأفراد والجماعات، خاصة تلك التي تتصرف بعقلية ومنهج لا يساهم في شد اللحمة الوطنية وتعزيزها، وفي السعي الى ردم الأخاديد التي ولدتها الطائفية المقيتة.

ان غياب الاستقرار وعدم استتباب الأمن بعد التحرير، وقلة الخدمات، وضآلة فرص العمل وتفشي البطالة، وضعف البنى التحتية، والفساد المستشري الذي يلتهم حتى المساعدات الدولية، وفرض الإتاوات والسرقة المنظمة للممتلكات الخاصة والعامة، والصراع المحتدم بين مختلف القوى على السيطرة والنفوذ، وتعدد مراكز القرار والإدارة، وسعي البعض الى تحويل المساهمة في تحقيق النصر على داعش الى امتيازات على الأرض. كل هذا وغيره أدّى الى ما تشهده الموصل اليوم من اوضاع غير طبيعية، حتى ان رئيس الوزراء قال في تصريح له، ان ما يحصل في الموصل من عمليات ارهابية، هو في جوانب منه صراع سياسي.

وقد قاد هذا الوضع غير المستقر ليس فقط الى عدم عودة النازحين الى مدنهم وقراهم ، بل اننا  نشهد هجرة معاكسة الى مخيمات البؤس والتشرد والجوع والأمراض .

 وفي  خضم هذا كله والأزمات المتلاحقة التي تعيشها الموصل،  جاءت  فاجعة العبّارة وغرقها والخسارة الفادحة في ارواح ابناء الموصل .

واذ نعيش حالة الحزن والألم لما حصل، يبقى الامل في ان تتم رعاية عوائل الشهداء والمفقودين، وان تكون الحادثة المؤلمة بما تؤشره من خلل كبير على صعد مختلفة، صرخة عالية مدوية تنبه المتنفذين المسؤولين عن القرار، في الرئاسات الثلاث والحكومات الاتحادية والمحلية والإقليم والكتل السياسية، الى ما يعانيه المواطن العراقي الذي نفد الصبر عنده منذ زمان ، ويكاد برميل الغضب والاحتقان ان ينفجر .

فهل ستذهب هذه الفاجعة مثل غيرها من الكوارث، ام  سيتم استخلاص  الدروس منها والتوجه الجاد لمعالجة مواطن الخلل والقصور ولردم الثغرات ؟

وتبقى الأفعال لا الأقوال هي المحك ..   

عرض مقالات: