بات التفكير بالمستقبل يقلق المواطن العراقي لا بل يفزعه، وقد أخذ  العجز واليأس مأخذه عند الكثيرين، فأصبحت الناس يائسة مغلوب على أمرها. فكل شيء يسير داخل دوائر مغلقة لا يعرف لها منفذ أو إلى أين تأخذ الناس في دوامتها. جميع مؤسسات السلطة الحاكمة ومثلها مؤسسات المجتمع المدني العراقية وقادة القضاء والمؤسسة العسكرية ومثلها المؤسسات الدينية، جميع هؤلاء يشتركون بصناعة الإيذاء والقسوة والخراب والخيبات للشعب العراقي، لذا أغلق في وجوه شعبنا الأفق، ولم يبق هناك غير بصيص نور ضعيف من الجائز أن يتم إخماده بعد تشكيل الوزارة الجديدة، والمتوقع لها أن تكون على ذات النهج القديم. فليس هناك في الأفق ما يشير لقبول ورضا سلطة الأحزاب الإسلامية والقومية الانتقال إلى أصلاح البنى والهياكل السياسية والإدارية لمؤسسات العراق والتخلي عن نهجها السابق. فالجميع يتمسك بفكرة دخوله الحكم والتفاوض على نسب الحصص التي ينالها ومقدار قيمها المالية والمعنوية، وهذا هو الجهد المبذول والذي تعمل على تركيبته السياسية كافة القوى دون استثناء.فهم أعرف من غيرهم بأن التغيير والإصلاح أي كانت طبيعته سوف يحمل لهم الانحسار والموت المحتم، لذا يجاهدون لمنعه مهما كانت طبيعته.

عرض السيد العبادي ما قيمته 25 ترليون دينار عراقي لتقديمها مع ما يقارب 30 ألف درجة وظيفية لمحافظات الجنوب والوسط، وقد أشارت الدوائر المالية لرئاسة الوزراء إلى كون هذه التخصيصات التي تقدم، سوف تؤخذ من صندوق احتياط الطوارئ الوطني،  وتغافلت الأخبار عن ذكر الفارق الحاصل في عائدات النفط العراقي المصدر والذي يقارب 25 دولارا عن قيمة  احتساب تصدير برميل النفط في ميزانية العراق لعام 2018 والذي وضع بسعر 45 دولارا للبرميل، ولم تظهر حسابات رئاسة الوزارة أو وزارة المالية أو أي سلطة مالية عراقية أين تم إيداع وارد الفرق بالأسعار أو كيف استغلت وفي أي أبواب تدوير وصرف  وضعت.

ليست هناك جهة رقابية تعمل على تدقيق حسابات الحكومة وأبواب صرفها لأموال البلد، وليس هناك من عرض شفاف وسليم لقاعدة واردات البلد، ومثلها نسب الصرف لجميع مؤسسات الحكومة، لذا بات الحديث عن هذه الأموال وأين ذهبت، مثل رواية لفلم خيال علمي وألغاز لا يستطيع أي من كان اكتشافها أو حلها، سوى حلقة ضيقة من الأشخاص لن يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وهؤلاء هم المانحون الواهبون، وبيدهم أموال قارون وخزائن العراق ومثلها مصائر البشر.وهم من يحجب عن الشعب أرقام الحسابات وكذلك الامتناع عن توفير الخدمات. ولكن هل إضاعة وسرقة أموال العراق وما حصل عليه الشعب من العلل والسقم والخيبات التي أصابته،  تقف عند ما يفعله هؤلاء. كلا فهناك سلسلة حلقات وتوابع جميعها تشارك في صناعة الخراب وإيذاء الناس، لا بل أن سلسلة الحلقات هذه تبدو مثل حيتان أو تماسيح تلتهم أي شيء يقع في طريقها، وتترقب مثل الحيوانات المسعورة الحصول على ما يقدمه لها أسيادها من القابعين في المنطقة الخضراء. فحلقة الوزراء  ورؤساء المؤسسات والمدراء دائما ما تضمن حصصها من داخل المؤسسات والوزارات ذاتها بعد أن تصبح تلك الدوائر ضياع يمتلكها هؤلاء دون حساب ورقابة.

قرر مجلس الوزراء بتأريخ 24/ 7 / 2018 وبشكل طارئ تأليف لجنة أعمار وخدمات المحافظات برئاسة السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي وعضوية عدد كبير من الوزراء وأمين مجلس الوزراء ومدير مكتب السيد رئيس الوزراء وغيرهم، على أن تتولى اللجنة تقييم الأعمار والخدمات في المحافظات ومتابعة احتياجات ومطالبات المواطنين لتحسين الخدمات والإسراع في انجاز المشاريع الخدمة.

القرار في شكله الظاهر جيد ويوحي بعمل مستقبلي ممتاز، حيث تخضع العمليات الخدمية للمتابعة والتنفيذ من قبل غرفة عمليات شكلت للغرض ذاته، على أن تنفذ المشاريع الخدمية بالجهد الوطني. وتتولى دائرة شؤون مجلس الوزراء ولجانه متابعة التنفيذ.

إن كانت العديد من المؤشرات أثبتت إن بعض الوزراء ورؤساء الدوائر شركاء في سرقة أموال الشعب فإن الفقرة الأخيرة من القرار أعلاه، تحوي دون ريب خطرا كبيرا  وتعلوا فيها مستويات الريبة والشكوك لدرجات كبيرة، فدائما ما كانت أصابع الاتهام ولازالت تشير للكثير من حوادث الاختلاس وسرقة المال العام والتصرف غير المسؤول بأموال الدولة، من قبل لجان في دائرة شؤون مجلس الوزراء بالذات، بدءًا من أمين المجلس الذي شكل حلقات نافذة ومتنفذة في مؤسسات الدولة جلهم من أقاربه وخلانه ومريديه.

 ولن يتوقف الآمر عند هذه الحلقة التي أسرفت بنهب الأموال تحت أعين وأنظار ورضا من يمتلك خزائن العراق، فهناك الكثير من التوابع والمتواليات من مؤسسات السرقات والنهب وإضاعة المال العام دون حياء أو خوف تعمل بالعلن ودون حياء بل تتحدى جوع الناس وعريهم، ومن ضمن جوقة هؤلاء السراق يأتي أعضاء مجالس المحافظات. هذه الحلقة الغريبة العجيبة التي تعد الأكثر خطورة ولؤما وقذارة من باقي الحلقات، فهؤلاء يتفوقون على الجميع في فنون السرقة والاحتيال، وهم من جعل حياة الناس في المحافظات تذهب إلى الدرك الأسفل، حيث تنعدم الخدمات وتفشل المشاريع وتنهار البنى التحتية رغم التخصيصات المقدمة لتلك المجالس حسب ميزانية الدولة. فأعضاء مجالس المحافظات يضعون نصب أعينهم مقدار الكسب المادي الذي يحصلون عليه من تشغيل تلك الأموال أو صرفها وتقاسمها. فنجد إن الكثير من الأموال التي تصرف على المشاريع المتلكئة تذهب هدرا بسبب التنافس والتقاتل الحزبي لإفشال بعضهم للبعض،أو بسبب ضيق أفقهم التعليمي وجهلهم بطرق إدارة المؤسسات وكيفية التصرف بالميزانية وتوزيعها على أبواب صرف عقلانية وذات مردود ايجابي وجدوى اقتصادية. ونجد كذلك ما يشي بقدرة هؤلاء على وضع أبواب صرف خاصة بحساباتهم  لنهب المال العام. يضاف لذاك الطمع الشخصي والسلوكيات الخبيثة في استغلال هذه التخصيصات وصرف جلها بما يسمونه الامتيازات والمكافئات التي توزع منذ اليوم الأول لورودها  ولحين نفاذها، ثم يبدأ الصراخ بفراغ ميزانية المحافظة. فأعضاء مجالس المحافظات بدلا من العمل على إكمال المشاريع الخدمية يسرقون جل الأموال لإقامة مشاريعهم التجارية وشراء عقارات وأراض خارج وداخل العراق، وقد استولى هؤلاء على أموال تقدر بالمليارات دون مسائلة وحساب. ولن يختلف الآمر والحال عن سابقه وهذا ما سوف يحدث وهو المتوقع، مع التخصيصات التي وعد بها السيد العبادي محافظات الجنوب والوسط ، فلن تصل لغير جيوب أعضاء مجالس المحافظات، ومهما أريد تقديم خدمات أو تحسين حال ووضع أسس لمشاريع تنقذ الناس وتبني لهم ما يسعفهم ويشعرهم بقيمتهم الإنسانية، فإن مجالس المحافظات سوف تعمل على إغلاق جميع منافذ النجاة، كون هذه المجالس ومنذ البداية وضعت كحلقة للنهب والتمويل الحزبي ولتكون بشكل ناجز بابا من أبواب النفع العميم لرفع ميزانية الأحزاب السياسية التي أسس صناديق خاصة بما تحصل عليه. لذا لا تريد هذه الأحزاب بل تمانع وبشدة وتقاتل لغرض أبقاء الحال على ما هو عليه وعدم الابتعاد عن مبدأ المحاصصة، فالتخلي عن هذا النهج المدمر سوف يجعلها تفقد الكثير من المنافع ولن تجد ما يكفي لسد أفواه قادتها وجوعهم للمال.

عرض مقالات: