المبادرة الجديدة التي اخذت حيزاً واسعاً في الإعلام الألماني خلال اليومين الماضيين تجلت في النداء الذي وجهته النائبة في البرلمان الإتحادي الألماني ورئيسة الكتلة البرلمانية لحزب اليسار الألماني سارا فاكنكنخت ، والذي دعت فيه الى العمل على تجمع القوى اليسارية الألمانية تحت شعار " انهضوا " لمواجهة الصعود اليميني المتزايد ، ليس في المانيا فقط ، بل وعلى النطاق الأوربي ايضاً .

لقد اهتمت جميع وسائل الإعلام الألماني بهذا الخبر الذي تناقلته محطات التلفزيون الرئيسية في المانيا بالإضافة الى نشره بمقال ومقابلة مع النائبة صاحبة المبادرة اجرتها المجلة الألمانية الأسبوعية الواسعة الإنتشار " دير شبيغل " في عددها الصادر يوم امس السبت الرابع من آب 2018 . إضافة إلى كثير من الصحف المحلية التي تناولت جميعها دعوة " إنهضوا " هذه على انها تجمع جديد لقوى اليسار الألماني الذي تعاني ساحته السياسية الآن الصعود المتواصل لقوى اليمين على النطاقين الإتحادي والمناطقي.

لقد اكدت النائبة فاكنكنخت في دعوتها هذه على ان تجمع " إنهضوا " لا يمثل حزباً سياسياً جديداً ، بل انه يمثل مناجاة القوى الإجتماعية النقابية والمهنية ومنظمات المجتمع المدني واعضاء الأحزاب  الديمقراطية  وكل الذين اصابتهم خيبة امل كبير بسبب سياسات الأحزاب التقليدية على الساحة الألمانية واهمها الإتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الإجتماعي الديمقراطي وحزب الخضر الألماني. لقد توجه النداء بشكل اساسي الى ناخبي هذه الاحزاب وإلى الشخصيات الديمقراطية المستقلة وجميع الذين يعارضون الصعود اليميني والذين  لا يرون في السياسة اليومية المتبعة من قبل الأحزاب التقليدية المشاركة في الحكم  بارقة امل في تحقيق طموحاتهم والوقوف سياسياً بوجه اليمين بحيث تصبح الساحة السياسية الألمانية لا تكترث بوجود او عدم وجود قوى اليمين عليها ، حتى وان نشطت هذه القوى تنظيمياً وسياسياً ، كما هو الحال مع الحزب النازي الذي لا يكاد ان يكون له دور يذكر في العملية السياسية الألمانية وذلك بسبب التثقيف الفكري المتصاعد ضد النازية وتاريخها وافكارها. إن اليمين الجديد الذي اتخذ طرقاً تختلف تنظيمياً وإعلامياً عن الحزب النازي ، إلا انه لا يبتعد عنه فكرياً ، استطاع ان يبلور نهجاً جديداً ينطلق من المشاكل الأساسية التي تواجه المجتمع الألماني الآن والتي تشكل مسألة اللاجئين الى المانيا واحدة منها .

كما اكد النداء ومن خلال دعوة النائبة فاكنكنخت على ضروة العمل على توجه هذا التجمع إلى تلك الساحات التي ينشط فيها اليمين المتطرف المتمثل بما يسمى " حزب البديل لألمانيا " والذي حاز على نسبة عالية في الإنتخابات البرلمانية الإتحادية الماضية . وقد تناولت المشتركات للقوى الديمقراطية في موقفها من النشاط اليميني بحيث انها ستقوم شخصياً بالنشاط السياسي بين جماهير حزب البديل والعمل معهم فكرياً لسحب تأييدهم لهذا الحزب وبالتالي تغيير معطيات الساحة السياسية الألمانية للإنتخابات القادمة .

هذه المحاولة هي واحدة من المحاولات التي تتكرر الآن في كثير من الدول الأوربية التي تعاني من صعود اليمين السياسي . وحينما تنطلق هذه المحاولات في كل بلد على حدة ، فإنها تعمل في نفس الوقت على محاولة ايجاد صيغة عمل مشتركة بين جميع او معظم هذه التوجهات الساعية لإيقاف زحف اليمين المتطرف وتأثيره على مجريات الساحة السياسية الأوربية .

فهل لنا ان نستلهم بعض ما يجري على نطاق اليسار الأوربي لنأخذ من معطيات هذه التجارب ما نستطيع الإستفادة منه في تجميع القوى الديمقراطية في وطننا الذي تزدحم ساحته السياسية بالكثير والكثير جداً من المشتركات بين هذه القوى ؟

هذه المشتركات الكثيرة التي لا يختلف على اهميتها واهمية العمل على انجازها اي اثنين من القوى الديمقراطية العراقية ، تلح على البدء فعلآ او تجديد ما تم مسبقاً من  وضع المقترحات المطروحة لهذا التجمع موضع التطبيق العملي والخروج بها من طور المكاتب إلى الشارع العراقي الذي ينتظر ذلك منذ أمد ليس بالقصير . وطننا يعاني اليوم ومنذ خمس عشرة سنة من ويل المحاصصات الطائفية والتكتلات المنطاقية والإنتماءات العشائرية القبلية وأحزاب التعصب القومي الشوفيني العربي والكوردي على حد السواء والتكتلات الرجعية التي سخّرت بقايا البعثفاشية وفسحت لها المجال للإستمرار في جرائمها ضد الشعب والوطن .
إنطلاقآ من كل ذلك ومن الكثير ما خفى أصبح الصراخ للتفتيش عن البديل عاليآ جدآ , تزداد حدته كل يوم يمر ولا تُتخذ فيه الخطوات العملية الواضحة لإيقاف هذه الحالة المزرية التي يمر بها الوطن وأهله . إن النداءات التي تكررت لإيجاد البديل ، وخاصة ذلك النداء الذي تمخض عن لقاء  القوى المدنية في الثامن والعشرين من تموز الماضي  ، يجب أن تقترن الآن بولادة هذا البديل والإنطلاق به على الشارع العراقي كي يراه المواطن فعلآ ويشعر به وبوجوده وليعيد الثقة إليه بنفسه وبالعملية الديمقراطية برمتها. لا يمكن ألإنتظار لأكثر من هذا الوقت , ولتنطلق الدعوات داخل وخارج الوطن بأوراق عمل واضحة ومواعيد ثابتة لعقد اللقاءات التي تجمع قوى اليسار العراقي الديمقراطي العلماني المتحرر من كل الأفكار التي عملت ولا زالت تعمل على ترسيخها قوى ألإسلام السياسي الحاكم الآن في العراق وقوى المحاصصات بكل أنواعها . وهناك شرط مهم آخر يجب أن يتوفر في التجمع العراقي اليساري التقدمي الجديد ألا وهو خُلّوه من أي إتجاه تّشم منه رائحة البعثفاشية التي تحاول الآن الرقص على جراحات الشعب العراقي لتعيد فكرها الشوفيني ألأسود إلى الحياة . أللقاءات والمؤتمرات للقوى الديمقراطية اليسارية العلمانية القادمة يجب أن تضع نصب عينها أهدافها المشتركة للمرحلة القادمة فقط , وذلك لأن إستمرار المآسي في العراق على هذه الشاكلة ستجر المواطن إلى خيبات أمل ويأس قد يطول الوقت لتجاوزها أو التخلص منها نهائيآ . لذلك فإن العمل على تحقيق خطط عمل مرحلية عامة هدفها الديمقراطية والفدرالية والعلمانية هي الوسيلة الناجعة والطريق السليم الذي ينبغي أن يدركه اليسار العراقي الآن ويعمل على تحقيقه فعلآ ، ولا اعتقد بوجود اي فصيل سياسي ديمقراطي لا يرى اولوية تحقيق هذه الأهداف المرحلية. أما ألأهداف الحزبية الخاصة فهي مصونة ومحترمة يمكن أن يمارسها أي حزب في ظروف الدولة الديمقراطية , دولة القانون وحقوق الإنسان , التي يجب أن تكون الخيمة التي يستظل بها كل من يسكن هذه الأرض الطيبة المعطاء ويعمل لها مهما كان لونه أو دينه أو قوميته أو أصله وفصله . فمتى سيُعقد ألإجتماع التنظيمي ألأول لقوى اليسار العراقي الذي يرغب أن يشارك به , بدون شك, كل من يؤمن بالبديل الديمقراطي العلماني الفدرالي للعراق الجديد , عراق دولة القانون وحقوق ألإنسان . إلا أن مثل هذه المؤتمرات لا تستوعب هذا العدد الضخم من الذين يرغبون خدمة وطنهم وأهلهم من خلالها , لذلك لابد من التفكير بلجان تنسيق تُنظم هذه أللقاءات على ألأصعدة والمستويات المختلفة داخل وخارج الوطن وتنطيم المقترحات وإعداد أوراق العمل لتصب هذه الجهود المشتركة أخيرآ في برنامج يساري تقدمي علماني فيدرالي متكامل يشكل السمة ألأساسية لنظام الحكم القادم في وطننا .

الإستفادة من تجارب الشعوب لا حدود لها ، إذ ان هذه التجارب تقترن بخصوصيتها التي لا يمكن نقلها او استنساخها ، بل الإستعانة بها وببعض معطياتها التي قد يشترك فيه اكثر من مجتمع واحد . وهذا ما نرجوه للقوى الديمقراطية العراقية التي تمتلك الكثير من المؤهلات القادرة على تفعيل هذه الإستفادة.

عرض مقالات: