
تأملات في زمن الشعارات، والدم المسكوب، والضمير المغيّب في زمنٍ تتداخل فيه الشعارات مع الخيانات، وتُختزل فيه القيم في خطبٍ منمقة تخفي وراءها جشعًا لا يُروى، كُتب هذا المقال في لحظة صدق داخلي قبل سنوات، ولم يُنشر. واليوم، بعد أن هدأت بعض العواصف واشتدت أخرى، يعود هذا النص ليأخذ مكانه في العلن—لا كمقال سياسي فحسب، بل كشهادة على زمنٍ اختلطت فيه الأصوات، وتوارى فيه الضمير خلف كاتم الصوت.
هذا المقال ليس دعوة إلى اليأس، بل إلى اليقظة. ليس صرخة في الفراغ، بل محاولة لفهم ما جرى، وما يجري، وما قد يجري إن لم نُحسن الإصغاء إلى صوت الحقيقة، مهما بدا خافتًا.
كثيرًا ما ينزلق الحوار إلى سجالٍ عقيم حول قضايا محورية، تدور في دوائر مغلقة، بسبب عجز الطرف الآخر عن مواجهة الحقائق بالحقائق. هذه المناقشات الجوفاء تتكرر في مجتمعاتٍ يسودها غياب القانون، وانهيار منظومات القيم، وسطوة البلطجة، واستغلال البسطاء فكريًا لتكوين قاعدة جماهيرية تُستدعى عند الحاجة القصوى.
تُرفع شعارات رنانة مثل الحرية والوطنية، ويُؤكد على الالتزام بالتقاليد والأعراف الشعبية كقنبلة موقوتة. تُستغل المناسبات والشعائر الدينية، وتُرفع راية احترام المقدسات—لا حبًا بها، بل توظيفًا لها.
في هذا المناخ، تعيش الطبقة المهمشة في دوامة من الصراع النفسي والفكري، تحت قيادة رمزية تفتقر إلى البصيرة، وتستغل غياب العقل النقدي الذي يضع الأمور في نصابها. وفي خضم هذه الفوضى السياسية، ورغم تضارب مصالح أقطابها، يتفقون ضمنيًا على إبقاء الوضع على ما هو عليه من تدهور. ويبقى المواطن البسيط يتأرجح في قاربه وسط هذه الأمواج، حائرًا في أمره واختياراته.
تسعى القوى المناهضة لتطلعات الشعب إلى ترسيخ مواقعها بكل السبل، حتى لو كلف ذلك سفك الدماء وبيع الوطن. ولتمويه الجماهير وتأمين سلطتها، تحتاج إلى جيشٍ من الأقلام الانتهازية والأصوات العالية في التطبيل والتزويق، ممن يتقنون فنون الكتابة بتحريف الحقائق، لتدجين العقول، وإلقاء تبعات الفشل على المواطن والوقت.
يكرّسون جلّ طاقاتهم في كتابة الأكاذيب بأسلوب منمق، موجه للحشود الجاهلة عديمة الرشد الفكري، حتى يكاد الإنسان أن يُصاب بعُسر الكلام. وبهذا، يصبح هؤلاء الكتّاب شركاء أساسيين في الجريمة أيضًا.
الحقائق لا تأتي بصيغة واحدة، بل تتشكل وفق الأزمنة والأمكنة، في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الصراعات وتتعمق التناقضات بين قوى متنافرة. ومن هذا التنافر تنشأ انقسامات جديدة، تتشعب منها فروع تسهّل الانتشار، وتُنتج أقطابًا تحمل ذات الحقائق، ولكن في أثواب براقة تتكيف مع السياقات الذاتية والموضوعية، بما يخدم مصالح القوى المتنفذة ويعزز اندفاعها نحو تنفيذ أجنداتها، غالبًا على حساب أخلاقيات المجتمع.
وفي هذا السياق، انطلقت الحركة الشعبية في العراق منذ تشرين الأول ٢٠١٩، بقيادة شبابٍ واعٍ يحاولون استرجاع وطنهم المسلوب من قبل مجموعة متنفذة تمتهن السطو السياسي، بعد أن قذفتهم رياح الصفراء على أرض العراق، موطن الحضارات.
هذه الشلة لم تستهويها من الحضارة سوى ما تخبئه الأرض من موارد وثروات، فاستولت عليها بالتعاون مع دول إقليمية، لاستنزاف طاقاتها حتى أصبح عراة الأمس من أغنى أغنياء العالم، تاركين مستقبل الأجيال يتشبث بالسراب.
ينصبون الكمائن للأحرار، ويقتادونهم في جنح الظلام إلى أماكن مجهولة، ويغتالون الناشطين من الرجال والنساء بكواتم الصوت، في ظل غياب وتواطؤ الأجهزة الأمنية، ويلصقون التهم جزافًا، لكبح جماح ثورة تنشد بناء وطنٍ سماؤه زرقاء، وشمسه تنشر شعلة الحرية على أرضٍ دمرتها آلة الحرب وآليات الغدر.
وهكذا، يعتلي شباب العراق اليوم منصات المجد، وتصدح ألحان التغيير، وتنساب إيقاعاتها في عباب السماء، لتزيح الغمامة السوداء عن كاهل الوطن، وتكشف زيف الفاسدين واللصوص والخونة التابعين لدول الجوار.