في مشهد استعاد شيئا من دفء التاريخ، وفي إحدى جنائن برلين وبدعوة من التجمع الديمقراطي العراقي ومنتدى بغداد للثقافة والفنون ونادي الرافدين الثقافي العراقي والجمعية الثقافية الأيزيدية في برلين، احتفل العراقيون في يوم السبت المصادف ١٩ آب ، من مختلف القوميات والمذاهب، بذكرى 67 لثورة 14 تموز 1958، الثورة التي أعادت تشكيل ملامح الدولة العراقية الحديثة، وأنهت عهدا ملكيا امتد لعقود.
لم يكن الاحتفال مجرد طقس سنوي، بل كان تجسيد حي لذاكرة وطن يبحث عن ذاته في تعدديته، وعن مستقبله في وحدته.
تخللت المناسبة كلمات وطنية، حيث عبر المشاركون، المترجم والحقوقي مثنى محمود والإعلامي عصام الياسري عن شهادتهم لأيام الثورة منذ يومها الأول وما اتسمت به معنويات الجماهير وتطلعاتهم إلى عراق يكرس مبادئ العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني، والسيادة الشعبية. هذه المبادئ التي حملتها الثورة في لحظتها التأسيسية، والتي ما تزال تشكل جوهر الحلم العراقي إلى يومنا هذا.
امتزجت الموسيقى من التراث العراقي بالرقص الشعبي، فكانت الدبكات والأهازيج بمكانة لغة شعبية واحدة، لا تعرف الطائفة ولا القومية، بل تعترف فقط بالهوية العراقية الجامعة. اجتمع العربي والكردي والأيزيدي والتركماني، المسلم والمسيحي، في ميدان واحد، تحت راية الذاكرة الوطنية، مؤكدين أن ثورة 14 تموز ليست ملكا لجيل مضى، بل إرث حي لجيل يصنع المستقبل.
إن استعادة هذه الذكرى ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل دعوة صريحة لإعادة قراءة مشروع الدولة الوطنية العراقية، الذي حاولت الثورة أن تؤسسه. في ظل الأزمات التي تمر بها البلاد، يصبح من الضروري أن نستلهم من تلك اللحظة التاريخية معاني السيادة والكرامة الوطنية، ونستعيد شعورنا الجمعي بالمسؤولية تجاه مصير العراق.
تخللت الحفل حوارات وكلمات مؤثرة، في لحظات عابرة من الانسجام الوطني الذي غاب طويلا عن المشهد العام. لكن وراء هذا البهاء، كان سؤالا عالقا في الأذهان: هل تحقق ما طمح إليه رجال الثورة ونسائها؟ أم أن العراق لا يزال أسير دورة الألم والتراجع؟
ثورة تموز جاءت بوعد العدالة الاجتماعية، وبتحطيم قيد الإقطاع والاستعمار، وبتحرير القرار الوطني من التبعية، فكانت بداية مرحلة أراد فيها العراقي أن يكون صانع مصيره، لا تابع لرغبات الخارج أو سلطات فوقية. حينها، أعلنت مجانية التعليم، وأقر قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية رقم 181 لعام 1959، الذي أنصف المرأة والطفل، وقانون النفط رقم 80 ، وبدأت مؤسسات الدولة تتشكل بخطى واثقة ـ نحو الحداثة وإعادة صياغة المقال الجمعي للهوية العراقية.
أما اليوم، وبعد 67 عاما، يجد المواطن العراقي نفسه في واقع مغاير تماما. تتراجع فيه الحريات العامة، وتقيد فيه حرية الرأي والتعبير، وتمارس فيه ضغوطا على الصحفيين والنشطاء والمثقفين، ويواجه فيه الشعب انعدام الأمن الاقتصادي، وتردي الخدمات، وانتشار الفساد السياسي والإداري.
ورغم كل ذلك، لا يزال الاحتفاء بذكرى 14 تموز يحمل بريقا خاصا. فهو لا يستدعى من باب النوستالجيا، بل بوصفه دعوة مستمرة لاستعادة المشروع الوطني، ولتذكير الدولة والمجتمع بأن العراق لا يمكن أن يستقر دون عدالة، ولا ينهض دون حريات، ولا يزدهر دون أن تكون كرامة الإنسان وحقوقه في صلب المعادلة.
لقد كانت ثورة 14 تموز 58 حدث فارقا في تاريخ العراق والمنطقة، وحملت معها بشائر الاستقلال السياسي والانفتاح الاجتماعي، لكنها، كما كل الثورات، واجهت تحديات معقدة. واليوم، بينما يعيد العراقيون قراءتها، فإنهم لا يفعلون ذلك بوصفهم مؤرخين، بل بوصفهم مواطنين يبحثون عن أفق جديد، متكئين على جذورهم العميقة...