لو ألقينا نظرة على الكتب المدرسية التي بين أيدي أبنائنا الطلاب نجد انها تتخذ اللغة العربية الفصحى سبيلا لإيصال ما فيها من معلومات الى أذهان الطلاب، وذلك شيء حسن وضروري جدا لتقويم لغة الطفل.
وغالبا ما يتوخى مؤلفو تلك الكتب أن تكون عباراتهم مصاغة بأسلوب يتماشى وثروة الطفل اللغوية التي من المفروض أن تكون في مستوى الصفوف التي هم فيها والمراحل الدراسية التي قطعوها. وهذا جيد أيضا. ولكن الملاحظ أن الكتاب وما يحويه من معلومات ومهما كانت الصيغة والاسلوب الذي كتب فيه (...) الا كتب القراءة والنحو التي تفرض قراءتها على الطالب بحكم كونها مادة من الواجب قراءتها في الفصل - ينفر منه الطالب ولا يستسيغ مطالعتها ودراستها الا في أوقات الامتحانات. فما علة ذلك النفور؟
في رأي ان السبب يعود الى عاملين رئيسيين هما:
المحيط أولا والمعلم ثانيا.
المحيط الذي يستعمل اللغة الدارجة يكون لدى الطفل ثروة لغوية خاصة بتلك اللغة فهو أي الطفل ومنذ نعومة أظفاره يبدأ باستعمال تلك اللغة في البيت والشارع ثم في المدرسة بل على مدى الحياة فهي جزء لا يتجزأ منه، فعندما يقبل على الكتاب المدرسي لا يفهم كثيرا مما ورد فيه خاصة في السنين الاولى من حياته المدرسية وإذا فهم شيئا فقد يكون ناقصا. ولما يرجع الى ثروته اللغوية التي اكتسبها من البيت والشارع ومن أقرانه في المدرسة لا يجد بينها أغلب تلك المفردات الواردة في الكتاب بل يجد نفسه أمام مفردات ومصطلحات بعيدة عن مداركه بعد الفصحى عن العامية فتنشأ لديه فكرة أو قل عقدة ( الصعوبة ) التي تبعده عن الكتاب وتضطره الى القائه جانبا ويبدأ في البحث عما يستعيض به عنه بالاعتماد على ما يتلقاه من معلميه وأقرانه من معلومات باللغة التي يفهمها جيدا، وان اضطر احيانا تحت وطأة الظروف والحرص على أداء الواجب والرغبة في النجاح لقراءة الكتاب فانه يعمد لما فيها من معلومات . فالمحيط قد فرض نفسه علينا جميعا ولا بد من جهود مضنية ومتواصلة لكي يصلح شأنه ويعود الى الفصحى او ما يقرب منها لسد الثغرة والحد من سلطان العامية السائدة على سلوكنا اللغوي.
أما دور المعلم فيتلخص فيما يلي:
انه ورغم ثقافته واجادته في أغلب الاحيان أو قل المامه باللغة الفصحى فهو بحكم كونه من ذات البيئة التي تحيط بالطالب وواقع تحت سلطان العامية في سلوكه اللغوي يستعمل اللغة الدارجة في جميع معاملاته الحياتية بما في ذلك التدريس وان كانت لغته تأثرت لحد ما بالفصحى نتيجة لقطعه مرحلة جيدة في التعلم وخاصة في المدن ، الا انها تبقى هي هي وثيقة الصلة بالعامية وملتصقة بها بحيث لا تصل الى مستوى لغة الكتاب ، فشتان ما بين لغة الكتاب واللغة التي يستعملها المعلم ، حتى انه في كثير من الاحيان يعمد الى القاء محاضرته - حتى عندما تكون المحاضرة خاصة بموضوع (نحو اللغة) باللغة الدارجة قاصدا بذلك النزول الى مستوى مدارك طلابه . ونتيجة لذلك نجد الطالب في حيرة من أمره إن أراد الاستذكار فلغة الكتاب فوق مستواه ولغة المعلم ليست مكتوبة ليعود اليها، أما مادة الموضوع فقد يكون أجاد فهمها بشكل جيد ولكنه يعجز عن التعبير عنها بلغة سليمة وخاصة في الامتحان، لذا تجده يتعثر في الاجابة ويختلط عليه الامر فتأتي نتيجته دون المطلوب لا لشيء الا لكونه قاصرا عن التعبير عما يجول بخاطره وما في ذاكرته من معلومات. فهو لو ترك له الخيار في الاجابة بلهجته الدارجة لأجاب بصورة جيدة. إذ ان معلمه قد تمكن من ايصال المعلومات الى ذهنه ،أما التعبير فتعاون كل من المحيط والمعلم على افقاره فيه ، وكمثال على ذلك حدثني أحد الزملاء من الذين كانوا يصححون الدفاتر الامتحانية عن طرائف الاجابات في درس التاريخ ، قال : في إحدى السنوات ورد سؤال في درس التاريخ للصف السادس الابتدائي عن فتوحات النبي ( ص) ، وعندما عدد الطالب الفتوحات وجاء الى ذكر فتح مكة فكتب ضمن ما كتب الجملة التالية : ( النبي دز زلم لمكة يشمشمون الحلوك ، بدلا عن العبارة الواردة في الكتاب والتي تنص على " أرسل النبي (ص) رجالا الى مكة يتسقطون الاخبار" وأكبر الظن ان تلك العبارة استقاها الطالب من معلمه عندما أراد أن يفسر لهم معنى ( يتسقطون الاخبار ) فبقيت عالقة بذهنه لأنها من صميم لغته الدارجة ، فلو كانت لغة المعلم ولغة الطالب متقاربة مع لغة الكتاب صعودا نحو الفصحى لما اضطر المعلم الى شرح مادة الكتاب بلهجة عامية دارجة قد تؤدي الى اهمال الكتاب.
فما العمل اذن لكي ننمي ثروة الطالب اللغوية بحيث يجد في الكتاب وسيلة جيدة بدلا من اهماله والاعتماد على اللغة الدارجة.
في ظني ان خير وسيلة هي أن يبدأ المعلم ومنذ الدرس الاول في الصف الاول باستعمال الفصحى بأسهل مفرداتها اولا ثم تلقين الطلاب بعض الجمل الفصيحة المرادفة لجمل عامية وتحفيظهم اياها بعد شرحها لهم بلهجتهم الدارجة ثم الاستغناء عن المفردات العامية مما يقابل تلك المفردات عند التحدث معهم ولو اتبعنا هذا الاسلوب في مختلف المستويات والمراحل لباتت لغة الكتاب قريبة جدا الى مداركهم خاصة لو كانت تلك الجمل والمفردات مستلة من مواضيع الكتاب وعندي ان اسلوب طرح الاسئلة والزام الطلاب بالإجابة عليها بنصوص مقاربة من نصوص الكتاب بالإضافة الى ما سبق سيجعل من الطالب ثريا لغويا ولاستغنى المعلم عن اللغة الدارجة و لارتفعت نسبة جودة الاجابات ودقتها أكثر فأكثر ولأصبح الكتاب في مستوى قدرات ومعارف الاطفال اذ ان المستوى ذاك يخلقه المعلم ولا احد غير المعلم يستطيع ذلك في المدرسة .أقول ذلك عن تجربة طويلة استعملت فيها هذه الاساليب وقد أدت مردودا جيدا بحيث اصبح الطلاب قادرين على مناقشة المعلم اذا ما ترك فقرة من المادة لم يتطرق اليها سهوا أو عمدا .
هذا بالإضافة الى تمكنهم من زمام اللغة وارتفاع جودة التعبير في كل الدروس، ويجب أن يتعاون كل المعلمين في هذ المضمار لا أن يترك العبء كله على معلم اللغة العربية فليس مجديا أن يبني معلم واحد
ليهدم الاخرون ما بناه في مضمار اللغة، وكما قال المثل (يدٌ واحدةٌ لا تصفق) ...
.............................................
* ساهم الاديب والمشرف التربوي الراحل عبد الستار كاظم في رفد التربية والتعليم بأفكار نظرية وعملية بهدف تطوير الاساليب التعليمية ونشر ما حصل عليه من خبرة في الصحافة لتصل الى اوسع قطاعات المجتمع. كما ساهم من خلال اهتمامه بالأدب بنشر ترجمات شعرية وقصصية من اللغة الكردية الى العربية وسنعيد نشر ما توفر من تراثه الغني.
توفي الراحل عام 1994 بعد رحلة طويلة من العمل في التربية والتعليم والصحافة.
** نشرت في جريدة العراق في العدد المؤرخ في 27 / 8 / 1975