وأخيرا حدث ما كان متوقعا، صادق مجلس النواب على قانون العطل الرسمية المثير للجدل والمختلف عليه، وكالعادة جاءت المصادقة بأكثرية تمثل من حضر من النواب، الذين لم يزد عددهم على الـ 50 في المائة، الا القليل، ليقروا وبطريقة التوافق، والتي لا تعني سوى التخادم بين الكتل المصوتة لصالح القانون، لتحقيق اهداف حزبية تتعلق بالصراع داخل الكتل المتنفذة منفردة، او في صراعها فيما بينها.
أود هنا التوقف عن خلو القانون من الإشارة الى يوم الرابع عشر من تموز، باعتباره يوما وطنيا عراقيا، ويوما لتأسيس الجمهورية التي ما تزال تعكس توصيف النظام السياسي القائم. والغريب في الامر، أصبح لدينا بعد المصادقة على القانون جمهورية، لا تملك وفق القانون النافذ يوما للتأسيس وبلدا لا يملك عيدا وطنيا، فاذا كان المصوتون يريدون مسح يوم التأسيس من ذاكرة الناس، فكيف يقرون بوليده.
أضف الى ذلك كيف يتسنى لبرلمان مطعون بشرعية انتخاب 75 نائبا، هم بدلاء نواب الكتلة الصدرية المنسحبة من البرلمان، وهؤلاء النواب لم يحصلوا على شرعية انتخابية حقيقة، كما ان مجموع من شارك في الانتخابات الأخيرة لا يتعدى 20 في المائة من الناخبين أي اننا إزاء برلمان لا يمتلك شرعية شعبية حقيقية، ويقوم بإلغاء العيد الوطني العراقي الذي صوتت له الغالبية العظمى من العراقيين طوعا في شوارع مدن العراق صبيحة الرابع عشر من تموز 1958، فإيهما أكثرية شرعية البرلمان الحالي ام عيدنا الوطني.
للمرة الثانية تصطف قوى سياسية واجتماعية مع انقلاب 8 شباط الأسود ونتائجه الكارثية، ومرة أخرى يصبح واضحا ان المصادقة على القانون عبرت عن ابتعاد المتنفذين عن قيم المواطنة العراقية، والإصرار على تفتيتها، وبهذا يلتقي هؤلاء موضوعيا مع مشروع الاحتلال الأمريكي في العراق وبلدان أخرى والقائم على تفكيك الدولة الوطنية. التي سيظل الرابع عشر من تموز في العراق يومها المحتفى به
وهذه المحاولة ليست الأولى في عراق ما بعد الاحتلال واسقاط الدكتاتورية، لكن محاولة تغييب الرابع عشر من تموز ومسحه من الذاكرة العراقية ليست مفاجأة. وهو نتاج لعداء تاريخي للثورة ورموزها السياسية والثقافية، ويأتي في سياق الصراع على ذاكرة الشعوب التاريخية، وهذا النوع من الصراع لا ينحصر في العراق لوحده. لان المتسلطين، وقوى اليمين بمختلف اشكاله، والمؤسسات المحافظة والرجعية في جميع انحاء العالم، توظف محو ذاكرة الشعوب في الصراع السياسي والاجتماعي الراهن، والقوى المتنفذة في العراق ليست استثناءً. لقد شهدت المانيا مثلا في الثامن من أيار الحالي، يوم استسلام الجيش النازي، وتحرير المانيا ومعها اوربا من النازية والفاشية، شهدت منعا لرفع الاعلام والرموز السوفيتية، في محاولة جديدة لتغييب الدور الأساس للاتحاد السوفيتي في هزيمة النازية. وكذلك تغييب دور الشيوعيين واليساريين في مقاومة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وخصوصا في بلدان مثل إيطاليا، فرنسا، اليونان، البرتغال ويوغسلافيا السابقة. وسيستمر الصراع على الذاكرة التاريخية بين المتسلطين وقوى البديل الديمقراطي في العراق وغيره من بلدان العالم.
اما لماذا كل هذا الحقد على ثورة العراق الوطنية؟ قد تتعدد الإجابات، لكني اعتقد انها يسيرة جدا: في البدء ان الكثير من المتنفذين اليوم ينتمون اجتماعيا وتاريخيا لقوى الثورة المضادة التي أنهت مسيرة الرابع عشر من تموز، فالثورة ليست ثورتهم، وليس لدي اسلافهم سياسيا واجتماعيا دور فيها، وبالتالي فان محاولة محو الثورة من الذاكرة مطلوب على الأقل نفسيا بنسبة لهؤلاء، لان الثوة تشكل معينا لا ينضب للنضال من اجل الغد الأفضل في العراق، وهي الإنجاز التاريخي الكبير، فيما الاخرون لا انجاز تاريخي لهم. لقد أرست ثورة 14 تموز المجيدة دعائم أساسية لدولة وطنية بامتياز. كان أكثرية العراقيين المطلقة يعتزون بالانتماء اليها، بعيدا عن هوياتهم الفرعية القومية والطائفية والجهوية، حين كان بديل المتنفذين للدكتاتورية المنهارة، دولة فاشلة قائمة على فكرة المكونات والتفتيت الممنهج للحمة الوطنية العراقية. وكانت ثورة 14 تموز تقدمية، أي انها اعتمدت مفاهيم التنوير والحرية والديمقراطية والعلم، في حين يتمسك المتنفذون اليوم بالعودة للماضي، واثارة نعرات التعصب والطائفية، ولعل آخرها معركة التماثيل والمناسبات الدينية، التي ينتظرها المتربصون بالعراق للعودة به الى سنوات „الحرب الاهلية».
اما السيادة الوطنية واستقلال القرار العراقي الذي حققته ثورة تموز 1958، فكانت استثنائية، لقد أصبح العراق خارج تأثير هيمنة المراكز الدولية والإقليمية، في حين تحول العراق خلال سنوات الدكتاتورية، وما تلاها الى ساحة مفتوحة لأطماع المراكز الدولية والإقليمية، ولا أجد ضرورة في تناول التفاصيل فهي معاشه ومعروفة وتثير غضب العراقيين المتنامي.
وإذا تحدثنا عن الإنجازات، فإلى جانب إنجازات الثورة السياسية التي نشير الى اهم نماذجها لإبقاء الذاكرة حية، مثل اخراج العراق من حلف بغداد، وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية في الحبانية والشعيبة والتحرر من قيود الإسترليني، واستعادة السيادة والاستقلال الوطنيين. وهذه الثورة لا غيرها هي من سن قانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٦١، محررة بذلك ٩٩،٥ في المائة من الأراضي العراقية التي كانت خاضعة للشركات الأجنبية. اما الإنجازات الأخرى، فخلال اقل من 5 سنوات هو عمر الثورة المغدورة شهد العراق، وفق إحصائية للإعلامي العراقي إبراهيم الزبيدي 198 مشروعا رئيسيا، وتطويرا لا تخطئه العين للقطاعيين الزراعي والصناعي العام منه والخاص، فما الذي قدمه حكام العراق في الـ 21 عاما الأخيرة؟
وما زال العراقيون يتغنون بنزاهة قادة ثورة تموز وايدهم البيضاء، بل ان حتى محاولات انقلابي شباط الأسود للنيل من سمعة القادة الوطنيين، ذهبت وباعتراف الكثير منهم ادراج الرياح، وبالمقابل يعيش العراق منذ عام 2003 دولة هي الاوسع والأكثر فسادا في تاريخه، دولة فقدت فيها موازنات كاملة، وتصل المبالغ المنهوبة من المال العام وفق بعض التقديرات الى 800 مليار دولار. والفساد منشر في طول البلاد وعرضها.
اما إذا تحدثنا عن القطاع الصحي، فان الفجوة كبيرة جدا، في عراق نهاية الخمسينيات كان هناك قطاع صحي عام فاعل، وكان أطباء العراق في مقدمة أطباء بلدان المنطقة، وفي عراق الربع الأول من القرن الحادي والعشرين يجري قضم قطاع الصحة العام لصالح الخصخصة وانتشار المستشفيات الاهلية التي أصبحت حياة المريض في اكثرها سلعة لتحقيق اعلى الأرباح، والعلاج واجراء العمليات الجراحية تكلف الملايين، والمستشفيات الحكومية تفتقر الى المقومات الأساسية لمستشفى مقبول بالحد الادنى، وحتى الادوية يطلب من المراجعين شرائها من الصيدليات الاهلية. والشيء نفسه ينطبق على قطاع التعليم، في عراق تموز 1958، كان قادة العملية التربوية والجامعة والمعاهد على اختلاف أنواعها من الأكاديميين المعروفين ومن الرموز الثقافية في البلاد حينها، وكانت الشهادة الجامعية العراقية محترمة في اوربا والولايات المتحدة، ناهيك عن بلدان المنطقة ولا شيء يذكر عن تزوير شهادات جامعية أولية او عليا، ولا شهادات صادرة من جامعات غير معترف بها في الكثير من بلدان العالم. اما اليوم فالمستوى التعليمي وسمعة الشهادة العراقية يثير الأسى، والجامعات الاهلية تنتشر بلا هوادة، والتعليم العام بكل مراحله يعاني الامرين.