موراي بوكتشين (1920- 2006) في كتابه :(إيكولوجيا الحرية)
هو الكاتب البارع والخطيب البليغ والفيلسوف الاشتراكي الامريكي اللاسلطوي. جامعته الأولى : الحركة العمالية الاميركية أوصلته إلى منظمة الشباب الشيوعيّة. درسَ الماركسية في أوائل القرن العشرين، اختلف مع الستالينية وانضم لحزب العمال الاشتراكي.
(*)
مبدع مختلف اجترح نظرية ً جديدة ً عن مجتمع ما بعد الندرة، أطلق عليها(اللامركزية الإيكولوجية) .. في 1958 أعلن انتهاجه ( اللاسلطوية) ثم اضاف لهذا المفهوم مفهوما ثان (الإيكولوجيا الاجتماعية) حيوية هذا المفهوم قائمة على ترابط القضايا الاجتماعية والبيئية. كما أجترح موراي مفهوم
(البلدية التحررية). على أثرها أصبح في طليعة القادة ضمن حركة التبيؤ.
(*)
في الستينات تدفق مؤلفاته اليسارية (أصغِ أيها الماركسي) (من التمدن إلى المدن) في 1990 وقف وجها لوجهة ضد غابة الرأسمال وأنشأ مدرسته ُ اللاسلطوية السياسية الخاصة باسم(الكومونية) لمؤلفاته مدياتها الساطعة بين الجموع والنخب وأثرّت بشكل كبير في الحركة الخضراء ومجموعات العمل المباشر المناهضة للرأسمالية.
(*)
هو من مشعلي حرائق الأسئلة ويرى(أن الحاجة المادية لا يمكن أن تنفصل عن المبدأ الأخلاقي/ 424) ثم يتساءل هل كانت الرأسمالية بديلاً أكثر تطوراً لمجتمع العصور الوسطى؟ القول ب نعم سيكون افتراضا ً متكبراً وإهانة للحضارات المعقدة التي قاومت التحديث في الماضي والحاضر على حد سواء. وأن الانحياز إلى أولوية المجتمع الراهن يعني بدقة بالغة أن ترفع قيمة وسائل الإعلام المتجانسة فوق التوق الروحاني الذي اختارته الطقوس الدينية، وكذلك أن ترفع قيمة العلماوية الميكانيكية فوق الحساسيات الميثولوجية المختلفة وأيضا ترفع قيمة اللامبالاة الجليدية بمصير جيرانك المباشرين فوق أنظمة المساعدة المتبادلة المترابطة للغاية. ومن جانبٍ ثان .. موراي يدخل مدخلا مختلفا عن ميشال فوكو في(المراقبة والعقاب) ويختلف عن حيادية جاك ديريدا. حين يقارن بين بطش السلطتين في قوله : لم يعد المجتمع الحديث يجرر المهرطقين إلى عمود المحرقة. كما كان يجري في القرون الوسطى، الآن تم أحراق الملايين في أفران الغاز والجحيم النووي. من هنا يطالبنا موراي بتجديد مفاهيمنا حول المفردات( لا يمكن تعريف الحرية بالمصطلحات المادية فقط، بل يجب تعريفها بالمصطلحات الأخلاقية أيضا /425)..
(*)
موراي يعلنها أما العالم أجمع (ظهرت كلمة (الحرية) أساسا في لوح سومري يسرد قصة عصيان شعبي ناجح ضد طغيان ملكي قمعي للغاية منذ آلاف السنين. ويخبرنا صموئيل نوح كرامر في كتابه (السومريون) أننا نجد في هذه الوثيقة كلمة الحرية، وهي تستخدم للمرة الأولى في تاريخ الإنسان المسجّل. والكلمة تعني حرفيا (العودة إلى الأم) ويتساءل (كرامر) (يا للأسف، لانزال نجهل لماذا استُخدِمت هذه الرموز الكتابية بمعنى (الحرية)../ 330)
وهكذا احتفظت (الحرية) على أثرها بمميزاتها باعتبارها توقا (للعودة إلى الأم). سواء كانت عودة لبيئة المجتمع الأمومية. أم للطبيعة التي تُرى كأم كريمة معطاءة
(*)
يتوقف موراي عند الفاصلة التاريخية بين العصور الوسطى وعصر الثورة الصناعية ليصنفها بتدهور مروّع في حياة المجتمع وبتخفيض قيمة المثاليات الشعبية المحترمة للغاية إلى مستوى مصالح اقتصادية وقحة، وبتفكيك الفردانية إلى أنانية. بهذا الخصوص كقارئ أرى أن الفردانية* هي من خصائص الأيديولوجية الحديثة أنها تخضع الكلية الاجتماعية للفرد باعتباره كائنا معنويا بذاته .هنا قامت الرأسمالية بتدوير السرد على مستوى تعريف المصطلحات التي يتم من خلالها مناقشة طبيعة الحرية وتوقعاتها،وما يجري ليس (مجرّد عمليات تشويه أيديولوجية ..أن كل نقد للسمات البرجوازية للمجتمع الحديث والتقنيات والفردانية هو بحد ذاته ملوّث بالمادة التي ينتقدها تحديدا/ موراي) سبب التلويث هو أن نقد الطبقة البرجوازية متأت من داخل الطبقة نفسها. بشهادة المفكر الشهيد مهدي عامل (كل نقد لأيديولوجية طبقة معينة بالضرورة باطل، إن كان نقداً لها من موقعها الطبقي نفسه، أي من زاوية نظرها الطبقية/ 11/)
(*)
شجاعة موراي بوكتشين الفكرية، تفرز حرصا قويا على مستقبل الإيكولوجية التحررية) فهو يريدها أن تتجنب أيديولوجيات الثنائيات (الكانتية الجديدة) التي تشمل البنيوية والعديد من نظريات التواصل.موراي يرى (أنّ نظرية الثنائية أصبحت موضة شعبية هذه الأيام /12).. كتاب موراي (إيكولوجيا الحرية) صدر في 1981 وأنا القارئ اصغي له الآن في 2023 بفضل المترجم الأستاذ متيّم الضايع
(*)
اجراءات مواري تختلف عن سواه من المفكرين. فهو يعالج التسلسل الهرمي وليس صراع الطبقات. يعالج الهيمنة أكثر من معالجته ِ للاستغلال. تشغل باله ُالمؤسّسات التحررية أكثر من مجرد إلغاء الدولة. والحرية أكثر من العدالة. والمتعة أكثر من السعادة. الفيلسوف موراي يبرر طريقته بالكلام التالي..(لم يكن هذا الإصرار المتغير بالنسبة لي مجرد خطاب معادٍ للثقافة ..خلال ستينات القرن العشرين قمتُ بالتركيز على كيفية إمكانية مجتمع حرّ فعلا، قام على قاعدة مبادئ إيكولوجية أن يتوسط في علاقة البشر مع الطبيعة وتعزيز السلطة الذاتية التي تقوم على أشكال حياة اجتماعية شعبية. أي باختصار شديد، مجتمع غير استبدادي مكوّن من مجمعات../ 19)
(*)
يرى موراي أن انهيار المساواة البدائية وتحوّلها لأنظمة هرمية تتضمن عدم المساواة وتفكك المجموعات البدائية التي كانت تعتمد على القرابة إلى مجموعات تعتمد على الطبقات الاجتماعية وانحلال المجتمعات القبلية في المدن. واغتصاب الدولة لسلطة إدارة المجتمع. هذه الخلخلة لم تغيّر أنظمة السلوك الجمعي بعمق فقط بل تسببت بتغيير البشر أحدهم تجاه الآخر وكذلك نظرة البشرية إلى نفسها فكانت المحصلة البائسة هي موقف البشرية من العالم الطبيعي. ومن جانب ثان يؤكد موراي أن هذا العالم الأخلاقي لم يُربط معلقّا ً في مناخ المثالية الأخلاقي. ولم ينبثق من الإلهام ذي المبادئ السامية وحده. بل أنه انبثق من سياق اجتماعي محكم للغاية لمدن تحجّم الإنسان، وأحياء نابضة بالحياة، وقرى مترابطة، أن الرجال المنفلتون والنساء الجامحات
هذه العينات البشرية هي التي صنعّت خميرة الحدس التحرري
(*)
هل يريدنا الفيلسوف مواري أن نكون من (أولئك القُرّاء الذين لا يشعرون بأنهم مقيدون بأيّ تعاليم سوى تلك الخاصّة بالعقل المستقيم/ أمبرتو إيكو/ 14)
حين يحذرنا من افتقاد التمييز بين(الحرية) و(الهيمنة) هذا المفتقد الذي يجعل المجتمع العضوي منتهكا أمام الهرمية والطبقية. ويتعرض المجتمع للتلاعب على أكثر مستويات التجربة الاجتماعية أولوية. وهنا يرى مواري أن العجائز والمؤسسات الكهنوتية وزعماء المحاربين الذين عملوا على إفساد المجتمع العضوي، لا يحتاجون إلاّ إلى أحداث انحرافات في التشديد من الخاص إلى العام. هنا تتسيّد النقلة المضادة للمجتمع العضوي :
- من حيوانات محدّدة إلى أرواحهم
- من آلهة ترتبط بالحيوانات إلى آلهة مجسدة
- من حق الانتفاع إلى الملكية المشتركة
- من كنوز شيطانية إلى خزائن ملكية
- من هدايا إلى سلع وحاجيات
- من مجرّد مقايضة إلى أسواق متقنة
(*)
على وفق هذه النقلة المضادة يخبرنا موراي عن الفجيعة الكبرى حيث يكتسب تعميم الأفكار شكله الثقافي الخادع بالمعنى الأغلى ثمنّا الذي يعطيه البشر للحرية، فعندما ينبثق عدم الحرية لينتج فكرة الحرية، تكتسب الفكرة بطريقتها منطقا لا فتاً ينتج عبر ممراتها الجانبية وعلاماتها المميزة كتلة غنية من القضايا والصيغ. وتكون أشبه بحديقة منوّعة يمكننا أن نتعلم منها ما نريد لتشكيل باقة جذّابة. من خلال النسيج الفاقع من خسارة مجتمع كان حراً في فترة ما، تأتي رؤية عصر ذهبي منمّق، باعتراف الجميع ومن طوباوية رجعية النظرة، قامت عموماً على صورة طبيعية محدودة واستهلاك غير محدود.. من هنا يعلن الفيلسوف موراي : يتطلب الترابط المنطقي أن نحاول جمع عناصر أرث الحرية المنوّعة معا، ويتطلب منا محاولة أن نشبك مشروعنا مع الطبيعة لنقل العقلانية، ليس إلى التاريخ الاجتماعي فقط، بل إلى التاريخ الطبيعي أيضا. وعلينا أن نستكشف القيم والمشاعر والآليات التي تناغم علاقتنا مع الطبيعة ومع أنفسنا.
(*)
كيف ننعش خصوبتنا في عالم الحياة؟ يجيبنا موراي : بعد عشرة آلاف سنة من التطور الاجتماعي، يجب علينا إعادة الدخول إلى التطور الطبيعي مجدداً
ليس بهدف النجاة من احتمالات كوارث إيكولوجية أو هلاك نووي . إننا نشوّه العالم الطبيعي عندما ننكر نشاطه وسعيه وإبداعه وتطوره وكذلك ذاتيته، إذ ليس بالإمكان تخدير الطبيعة. إن إعادة الدخول إلى التطور الطبيعي عبارة عن إضفاء طابع طبيعي على الإنسان أكثر مما هي إضفاء طابع إنساني على الطبيعة. ويواصل الفيلسوف موراي تعرية التقدم الحضاري الذي هيمن على حساب حريات الطبيعة( إننا لا نجعل المعاني الكامنة في الطبيعة واضحة، ولا نتصرف مع الطبيعة لتعزيز سعيها الداخلي إلى مزيد من التنوع. لقد افترضنا أن التطور الاجتماعي لا يحدث إلاّ على حساب التطور
الطبيعي، وليس التطور الذي يُنظر إليه ككل يشمل المجتمع والطبيعة معا/ 626)
(*)
الإنسان وسط هذه المثلث يقف أو يقرفص أو ينحني أو ينبطح
- الحضارة
- الذاكرة
- الطبيعة
هنا يتوجه نحونا موراي بالخطاب التالي : نحن البشر أسوأ الأعداء لأنفسنا ليس موضوعيا فقط بل ذاتيا أيضا. إنّ انفصالنا العقلي، ولا حقا الفعلي، كمجتمع من طبيعة ترتكز على (التشيئ) الهمجي للبشر وتحويلهم إلى وسائل إنتاج وأهداف الهيمنة هو تشيئ أسقطنا على عالم الحياة كله. ستظل الطبيعة شيئا وسيبقى الناس أشياء ولن تستطيع أن نتخلص من الذاكرة التي نقشتها الحضارة في أدمغتنا من خلال تخلّينا عن مقدراتنا على العمل بوعي ذاتي في المجتمع كما في الطبيعة سوف نهين ملايين من الناس الذين كدحوا وهلكوا لتزويدنا بما هو ذو قيمة في المجتمع البشري. هذه الأرض ليست مقبرة للموتى الأبرياء أكثر مما هي منبع للحياة، لكن المجتمع أصبح غير عقلاني إلى حد كبير، وأصبحت حمّى القتل لديه هائلة لدرجة لم تعد مؤسساته تحترم أي قانون سواء أكان
اجتماعياً أم إيكولوجياً..
(*)
يخبرنا موراي عن البدايات الأولى للجنس البشري. يثمّن كيفيات البدائيين
مع الطبيعة، فهؤلاء البدائيون كانوا كرماء مع الطبيعة حاولوا إقناعها بالملاطفة دوماً وببطء وصب بالترتيل الدينية والأغاني والاحتفالات الطقسية التي نسميها بحق رقصات. وتم ذلك بروح من التعاون داخل المجتمع نفسه وبين المجتمع والطبيعة .. حينها لم تكن كلمتيّ الضرورة والحرية موجودتان كان ذلك قبل فترة طويلة جدا من ولادة الكتابة الأولى.
ويختم موراي كتابه بهذه الجملة المستقبلية المعتمة (النيران التي تهدد بابتلاع كوكبنا ربما تبقيه معاديا للحياة بشكل يدعو لليأس وشاهداً ميتاً على فشل الكون وفقط لأن تاريخ هذا الكوكب، بما فيه تاريخ الإنسان. كان مليئا
بالوعود والأمل والإبداع، فهو يستحق قدراً أفضل مما يبدو أنّه سيواجهه في السنوات القادمة / 726)
(*)
ليس موراي وحده في الدفاع الأخضر عن الطبيعية. هناك حركات وخبراء وعلماء يعملون بنفس المجال . منهم العالم جيمس لفلوك مؤلف كتاب (وجه غايا المتلاشي) الذي كان من ضمن المحذرين منذ ثمانينات القرن الماضي عن التغير المناخي الخطير نتيجة ملوثات الهواء خصوصا الكميات الهائلة من ثاني أوكسيد الكربون لقد عتّم تلوث الهواء على رؤية الكواكب والقمر كما صارت الأرض تعاني من فقدان التنوع الحيوي مع ازالة الغابات ولا يبدو( بشهادة عالم البيئة جيمس لفلوك) أننا نملك أدنى فهم لجدية مصيبتنا. أجل (تطورت الفلسفة الصديقة للبيئة بطريقة معقدة ولا تزال هذه الفلسفة تفشل في التحدث بصوت واضح وحيد/ 174/ جيمس لفلوك) والخطر لم يعد منحصراً في البرية أصبح التهديد حقيقيا وخطيراً على البشر. ومن أجل مواجهة حقيقية حصل دمج بين فلسفة البيئة وفلسفة اليسار وأصبح هذا اليسار قادرا على القول بأننا جميعا ضحايا أعداء الماركسية القدامى وهم الرأسماليون فهم لا يستغلوننا فقط بل يسمموننا أيضا . ومن دمج الفلسفتين انطلق الانصهار بين التفكير الصديق للبيئة والدعوة للسلام وتشكلت حركة السلام الاخضر
(*)
لم أفعل أي شيء خلال يومين سوى نزهتي في هذا الكتاب الضروري.. لقد نجح موراي في جعل الطبيعة هي الشخصية المحورية في نصوص كل العلوم الاجتماعية
(1)موراي بوكتشين/ إيكولوجيا الحرّية/ ترجمه عن الانكليزية متيّم الضايع/ منشورات نقش قامشلي/ ط1/ 2020
(2) جيمس لفلوك/ وجه غايا المتلاشي تحذير أخضير/ ترجمة : د. سعد الدين خرفان/ عالم المعرفة / الكويت/ ع388/ 2012
(3) مهدي عامل/ أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية/ دار الفارابي/ بيروت/ 1073
(4)لويس دومون/ مقالات في الفردانية/ ترجمة: د. بدر الدين عردوكي/ المنظمة العربية للترجمة/ بيروت/ 2006
(5)أومبرتو إكو/ بماذا يؤمن مَن لا يؤمن؟/ ترجمة أماني فوزي حبشي/ دار المتوسط/ ميلانو/ ط1/ 20212
(6) د. أسامة الخولي/ البيئة وقضايا التنمية والتصنيع/ عالم المعرفة/ الكويت/ ع285/ 2002