على الرغم من الردات المتعاقبة التي تشهدها حركات التحرر الوطني العربي، وسائر الحركات الساعية للتغيير الديمقراطي التقدمي في عالمنا العربي منذ هزيمة 1967 إلى يومنا هذا، حيث يتضاعف اليأس في التغيير حتى أضحى أشبه بحلم بعيد المنال، إلا أن ثمة واقعاً موضوعياً يوحد العرب، ويتمثل على الأقل في الهم المشترك والمعاناة منه، ما يؤكد في الوقت نفسه أن ثمة تشابه بين البلدان العربية في الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية. ولنأخذ على سبيل المثال ثورات الربيع العربي التي وقع بعضها أوائل العقد الماضي، وبعضها الآخر في أواخره، لنتساءل: هل هي مصادفة أن تقع تلك الثورات جميعها في هذه البقعة الجغرافية من العالم تحديداً؟ ولماذا لم تقع في بلدان إسلامية قريبة أو مجاورة؟ أليس هذا دليل قاطع على وجود رابط ما يجمع الشعوب العربية من آلام وآمال مشتركة؟

ورغم وجود سمات خاصة وظروف متباينة لكل حركة سياسية قُطرية ومطالبها ومهامها على حدة، إلا أن ثمة ما يجمع هذه الحركات وشعوبنا العربية حول قواسم وغايات مشتركة، خُذ على سبيل المثال، لا بل على وجه الخصوص، شعارين لطالما تغنت بهما الأحزاب القومية وبررت انقلاباتها العسكرية بهما، ألا هما "القومية العربية" و " الوحدة العربية"، وكثيراً ما اتهمت الشيوعيين وقوى اليسار عامة بمعاداتهما، فهل كان صحيحاً أن اليسار وقف مبدئياً من ضد هذين الشعارين؟ أم يا تُرى كانت له رؤية واقعية مختلفة عما كانت تطرحه الحركات والأنظمة القومية؟ حسبنا هنا أن نقدم ثلاثة نماذج من كبار كتّاب ونشطاء اليسار الراحلين ما يدحض تلك الفرية الشائعة جملةً وتفصيلاً: 

النموذج الأول: ويمثله المفكر الراحل سمير أمين، ففي كتابه الموسوم" الاُمة العربية" والذي يتكون من جزءين، الأول بعنوان " القومية والصراع القومي" والجزء الثاني بعنوان " البُعد الثقافي" والصادر عن مطبعة مدبولي 1988 بالقاهرة، يأخذنا أمين في رحلة تاريخية طويلة من خلال دراسته لما أطلق عليه "نمط الإنتاج الخراجي" الذي ساد اقتصاديا في البلدان العربية بدرجات متفاوتة. وهو يرى أن الاُمة العربية لم تتكون تاريخيا إلا نتاج الاندماج التجاري العربي، وأن الطبقة التي قامت بالتوحيد هي طبقة التجار- المحاربين، أما في العصر الإمبريالي فيرى أمين أن طبقات البرجوازية الكومبرادورية والملاكية ورأسمالية الدولة عاجزة عن تحقيق الوحدة العربية. وهذا يعني في رأينا إيمانه مبدئيا بالوحدة العربية، لكنه لا يرى أفقا لإمكانية تحقيقها على أيدي تلك الطبقات أو إشراكها في مشاريعها؛ لانتفاء مصالحها إذا ما تحققت، في حين لا يجد القوميون غضاضة في إمكانية إشراك ممثلين لتلك الطبقات داخل أنظمتهم السياسية في مشاريع الوحدة.   

النموذج الثاني:  ويمثله المناضل القيادي الشيوعي والمفكر الاقتصادي الراحل الدكتور فؤاد مرسي، ففي كتابه الموسوم" نظرة ثانية إلى القومية العربية" الصادر عن سلسلة كتاب الأهالي، أبريل 1989، بالقاهرة، يؤكد مرسي بصريح العبارة : أن العالم العربي يمر بأزمة مستحكمة، وأن ما يجري فيه منذ هزيمة 1967 ضد حركة التاريخ ، وأن حركة التاريخ في المنطقة إنما تتمثل في القومية العربية، التي مهما يكن الرأي فيها فهي في النهاية من صنع  التاريخ، مضيفاً: " فالقومية العربية حركة تاريخية تعبر في الواقع عن حتمية تاريخية موضوعية هي حتمية انتصار حركة التحرر الوطني على أعدائها مهما طال الزمن." لكن هذا المطلب المنشود الحُلم، لا يرى مرسي تحقيقه بالحتمية الأتوماتيكية من تلقاء نفسه، وإنما بنضال البشر الواعي. وهو أيضاً -كسمير أمين- يأخذ يرى أن البرجوازيات العربية الحاكمة، وهي برجوازيات مشوهة كما يصفها مرسي، ليس من مصلحتها تحقيق الوحدة العربية لأن أطماعها الطبقية الأنانية إنما تربطها برأس المال العالمي والاحتكارات الدولية، ومن ثم فهي تقف حجر عثرة في وجه انجاز مهام التحرر الوطني، والتي لا يمكن فصمها -موضوعياً- عن مهام التحرر الاجتماعي.

النموذج الثالث: ويمثله المناضل القيادي الشيوعي العراقي الراحل عامر عبد الله، ففي دراسة له أعادت نشرها "الثقافة الجديدة"  (آذار- نيسان عام 2000) يقوم عبدالله بتشريح العوامل التي حالت دون تحقق الوحدة العربية، ومنها اصرار الأنظمة القومية الحاكمة في الستينات على الانخراط في مشاريع للوحدة الاندماجية الفورية، كما حدث من خلال تجربة الوحدة المصرية السورية 1958- 1961، والتي انتهت إلى الفشل الذريع ، وما ذلك إلا لرفض القوى القومية والناصرية لمشاريع التدرج الواقعية في خطواتها ، فضلا عن رفضها أن تتم هذه المشاريع وفق خيارات ديمقراطية شعبية بحيث تظللها أنظمة ديمقراطية. لا ينكر عامر عبد الله بطبيعة الحال أن الاستعمار عمّق التجزئة بين الأقطار العربية ووضع عراقيله للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، لكن لا يتردد في الوقت نفسه أن ينحي باللائمة على الأنظمة والحركات القومية لمسؤوليتها المشتركة مع الاستعمار والإمبريالية في هذا الإخفاق، ما أفضى ومن لوأد حلم الشعوب العربية من أجل تحقيقها. ولهذا فإنه يرى أن طريق الوحدة العربية ينبغي أن يبدأ من التحرر من الإمبريالية، ومن التصدي الحازم للعدوان الإمبريالي- الصهيوني، وسياسة التوسع والهيمنة الأمريكية- الإسرائيلية وسياسة نهب الثروات الوطنية وحل المسألة الديمقراطية، وأنه ينبغي المرور أولا بما أسماه "مراحل انتقالية وحلقات وسيطة"، بمعنى إقامة أنظمة اتحادية أو وحدوية بين قطرين متجاورين أو أكثر حيثما نضجت الظروف الضرورية التي تسمح بذلك. 

ومع أن حل مهام القضايا القومية، وبضمنها مسألة الوحدة العربية، أضحت اليوم أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه في الأزمنة التي كُتبت فيها تلك الدراسات الثلاث الآنفة الذكر، إلا أننا نرى جوهر ما ذهبت إليه عن شروط تحقق الوحدة، وعوامل تعثرها -موضوعيا وذاتياً- ما زال يحتفظ بصحته بوجه عام. 

عرض مقالات: