الجميع في العراق يدعو اليوم لما تسمّى بالدولة المدنية، الشيوعيون، القوميون ، الماركسيون، الليبراليون، منظمات المجتمع المدني، النقابات، التشرينيون، العشائر، بل وحتى البعض من الأسلاميين وميليشياتهم!! فهل نحن بحاجة فعلا بعد مرور عشرات العقود على إنشاء الدولة العراقيّة الحديثة بهشاشة نسيجها الأجتماعي وأحتراب مكونّاتها العرقيّة والطائفيّة، وعقدين على تجربة نظام "ديموقراطي" أثبت فشله على كل الصعد لتضاف تجربته المريرة الى فشل أنظمة الحكم العراقية التي سبقته، اقول ، هل نحن بحاجة فعلا الى دولة مدنية ديموقراطية ؟ هذه التي يدعّي جميع من جئنا على ذكرهم العمل لتحقيقها على الرغم من الفروقات الكبيرة بين القوى التي تتبنى هذا المفهوم لشكل الدولة، أم نحن بحاجة الى دولة علمانية ديموقراطية؟

 العراق على الصعيد الأجتماعي يتحكّم فيه عاملا الدين/ الطائفة – القومية / العشيرة، ومن خلال هذين العاملين تأتي عوامل أخرى كتحصيل حاصل لدورهما وولاء الغالبية العظمى من الشعب العراقي لهما، نتيجة دور نفس هذين العاملين في ترسيخ التفرقة والتخلف والجهل عن طريق سرقة ما تبقّى من وعي عند الجماهير، علما من أنّ العراقيين لم يغادروا مربّع هذين العاملين منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة لليوم. ومن العوامل التي تساهم في ترسيخ مفهومي الدين/ الطائفة - القومية / العشيرة اليوم، هي أحزاب المحاصصّة الطائفية القوميّة المهيمنة على السلطة منذ الأحتلال حتى هذه اللحظة. ولمّا كانت المؤسستين الدينية/ الطائفية ومعها القومية/ العشائريّة غير قادرتين دستوريّا على تبنّي تعريف محدّد للدولة، فأنّ سلطة المحاصصّة أخذت على عاتقها من خلال هيمنتها على السلطة تعريف شكل الدولة التي تتماشى بالحقيقة مع ما تريده هاتين المؤسستين بما يضمن مصالحهما.

 لو نظرنا الى الأحداث التي جرت وتجري في العراق منذ الأحتلال لليوم، لرأينا أنّ كل مناحي الحياة السياسيّة والأجتماعية والأقتصادية مشوّهة بشكل كبير. هذا التشّوه بالحقيقة له جذوره التي سبقت الأحتلال، لكنّ النظام السياسي الجديد لم يعالج كما كان منتظرا منه التشوّهات التي ورثناها من النظام البعثي والأنظمة التي سبقته في بنية الدولة والمجتمع، بل على العكس فأنّ النظام الجديد عمّق تلك التشوّهات خدمة لمصالح نخب سياسيّة وعائلية وعشائريّة على حساب مصالح الجماهير المسحوقة من جهة، ولصالح قوى إقليميّة ودوليّة من جهة ثانية. ولو عدنا الى أسباب أستمرار التشوّهات في ظل السلطة الجديدة سنرى أنّ الدستور العراقي هو الحجر الأساس في هذه التشوّهات، كون هذا الدستور مشوّها ومتناقضا في أهمّ فقراته التي تحدد شكل الدولة وهويّتها. فالدستور لم يشر علنا الى أسلاميّة الدولة، الّا أنّه وضع الدولة في إطار أسلامي على المستوى القانوني/ التشريعي، وفي صورة أسلاميّة على المستوى الأجتماعي وحقل التعليم. فالدستور العراقي ينص في مادّته الثانيّة على:

 أولّا :-"الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع"

أ‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام

ب‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية

ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور".

ثانيا:- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والآيزديين والصابئة المندائيين .

 هذه المادّة الدستوريّة ليست تشوّها في الجسد الديموقراطي للدولة فقط، بل هي أساس قانوني ودستوري لضبابيّة شكل الدولة ونسفها مستقبلا. ولو عدنا الى اللجنة التي كُلّفت بكتابة الدستور فسنرى أنّ النسبة الأكبر من أعضائها هم سياسيّون ورجال دين من ثلاث مجموعات سكّانيّة (شيعة- سنّة - كورد)، مع عدد من ممثّلي الأثنيات العراقيّة الأخرى وعدد قليل من القانونيين والمختصّين كديكور ليس الّا، كونهم غير مؤثرّين لا في هذه اللجنة ولا غيرها. ولكي نتعرف على شكل الدولة التي رسم الأعضاء الواحد والسبعون (عدد أعضاء اللجنة التي كتبت الدستور) ملامحها، فعلينا أن ننتبه الى وجود ممثّل فيها كان له حقّ الفيتو غير المعلن وأملاء ما يريد وتمرير ما يريد وهو السيّد أحمد الصافي النجفي ممثل السيد السيستاني في تلك اللجنة. ولو عدنا الى الدستور العراقي لسنة 1925 لنقارنه بدستور اليوم فسنراه أكثر تقدميّة في هذه المادّة بالذات، فقد نصّ في مادّته الثالثة عشرة من أنّ: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تُمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلّة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة". "ولا يوجد في هذا النص ما يشير الى علاقة الدين بتشريع القوانين نفياً او ايجاباً. ومن الناحية العملية ظلت الأحكام القانونية تُستمد من أحكام الشريعة الإسلامية سواء في الأحوال الشخصية أو العلاقات العائلية أو في الحقوق المدنية" (1)

 من خلال الأشكالية الدستورية أعلاه، وممارسات التيار الأسلامي والمؤسسات الدينية سلطويّا ومجتمعيا،  ومن خلال حقل التعليم، علينا البحث عن أجابة لسؤال محدّد هو: هل العراق دولة دينية أم "دولة مدنية" يهيمن عليها الدين من خلال مؤسساته وأحزابه الذين يريدون فرضه أي الدين كأداة للحكم وفلسفة وقيم لقيادة المجتمع، وإن كنّا بحاجة لهما أو لأحدهما كنموذج للحكم للخروج من أزماتنا التي نعيشها اليوم كمواطنين وكبلد يشغل الدين فيه مساحات واسعة من العقل الجمعي لمواطنيه وقوانينه ويرسم سياساته ويؤثّر بشكل كبير على حياة سكّانه الأجتماعيّة، أمْ أنّ الدولة العلمانيّة الديموقراطية هي السبيل الوحيد لبناء دولة عصريّة على أنقاض الدولة "الدينيّة" أو "المدنيّة" التي نعيش خرائبها اليوم؟

 الغالبية العظمى من الدول العربيّة والأسلاميّة ومن خلال دساتيرها هي شكل من أشكال الدولة الدينيّة على الرغم من أنّها مدنية الطابع إجتماعيّا وثقافيّا وفكريّا، ولا يخلو دستور فيها من أربعة نصوص رئيسية حول الأسلام وهي: أن يكون الأسلام دين الدولة الرسمي، والأسلام مصدر أساسي للتشريع، والأسلام مصدر من مصادر التشريع، والدولة راعية للدين. والدستور العراقي فيه هذه النصوص جميعها. وتبقى الجمهورية الأسلاميّة الأيرانيّة على سبيل المثال والتي تنصّ مادتها الدستوريّة الرابعة بأن:-

"يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والأنظمة المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. ويسري هذا المبدأ على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى على الإطلاق والعموم، ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك" هي دولة دينيّة دستوريا .

 المادّة الدستوريّة الإيرانية هذه هي ترجمة حرفيّة لمفهوم (الحكم بما أنزل الله) والتي يتمّ تفسيرها سياسيّا كي تكون الشريعة الأسلاميّة هي الأساس في بناء المجتمع والأنسان، وهي التي ترسم من قبل الدولة طبيعة الحياة السياسيّة والأجتماعية والفكريّة والأقتصاديّة للمجتمعات الأسلاميّة، وهي التي تملك الوصاية على حقل التعليم وتوجيهه أسلاميّا، وهنا تحديدا تكمن الخطورة. وقد أرجع المودودي القانون الى الله وحده في معرض تفسيره حول حاكميّة الله القانونيّة فكتب "يقرر القرآن الكريم أنّ الطاعة لا بدّ وأن تكون خالصة لله، وأنّه لا بدّ من إتباع قانونه وحده، وحرام على المرء أن يترك هذا القانون ويتّبع قوانين الآخرين أو شرعة ذاته ونزوات نفسه" (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون – البقرة 229 (2) وقد حذا محمد باقر الصدر حذو المودودي في هذا الجانب ليقول "ما دام الله تعالى مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن الله تعالى، فمن الطبيعيّ أنْ تحدّد الطريقة الّتي تُمارَس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلاميّة" (3) وقد ذهب الخميني الى "أنّ القرآن الكريم كتاب قانون، يحمل بين دفتيه أصول الحكم وقواعده، ويستبطن مكوّنات دولة في طبيعة تعاليمه" (4) أمّا عن أسباب التشريع الأسلامي فأنّ "ماهية وكيفية القوانين الإسلامية وأحكام الشرع تدلّ على أنّها قد شرِّعت لإنشاء حكومة ولإدارة سياسية واقتصادية وثقافية للمجتمع" (5)

 المؤسسات الدينيّة والأحزاب والمنظمّات الدينية والطائفيّة بالعراق، لم تتطرق لليوم الى شكل الدولة بالبلاد عدا بعض التنظيمات التنظيمات الشيعية، والتنظيمات الأسلاميّة المتطرفة ومنها تنظيمي القاعدة والدولة الأسلاميّة (داعش) الأرهابيين، اللذان دعيا لقيام دولة أسلاميّة يكون الحكم فيها لله أي وفق الشريعة. الا أنّ المؤسسات الدينية وغالبية الأحزاب والمنظمات الدينية الأخرى لم تبدِ وجهة نظرها بشكل علني حول شكل الدولة لظروف موضوعية تمر بها البلاد وليس لعوامل ذاتية، لذا نراها تعمل في المنطقة الرمادية لحين قدرتها على تغيير شكل الدولة نحو الدولة الثيوقراطيّة أي الدينية كما إيران وتنظيم الدولة أي داعش، مع التركيز على أنّ شكل الدولة وهي تحت سيطرة الأحزاب والمؤسسات الدينية ومراجعها يلتقي بشكل أو بآخر مع أهداف داعش من حيث العودة للقرآن والشريعة كوسيلة للحكم وبناء الدولة. لكنّه يختلف عنه بالعراق حيث الثقل الشيعي وميل واضح لغالبية التنظيمات السياسية الشيعية نحو الجمهورية الأسلامية الايرانية كنموذج يحتذى به لبناء دولة على غرار الدولة الأيرانية، أي دولة ولي الفقيه. وقد أكّد الخميني أنّ حق الحاكمية بعد الله كانت للنبي ثمّ "أنتقلت مسؤولية القيادة السياسية للمجتمع بعد النبي الى الأئمّة المعصومين" (6). وقد أوكل الله وفق وجهة نظر الخميني حقّ الحاكمية بعد النبي وأئمة أهل البيت بعدهم الى علماء الدين الذين ليس لغيرهم الحقّ في الحكم وهم "المصداق الحقيقي لأولي الأمر" (7)، وفي تشكيل حكومة عصر الغيبة يقول "عرّف الأمام المعصوم (عج) الفقهاء العدول بوصفهم قادة سياسيين للمجتمع والمسؤولين عن تشكيل الحكومة" (8). وقد كان يوسف القرضاوي شديد الوضوح وهو يكتب "فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية"!! (9)

 هناك من يعتقد ومنهم سياسيّون ومثقفون من أنّ العراق بعيد كل البعد عن دولة ولي الفقيه لأنّ المرجعيّة الدينيّة في النجف لا تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، لكنّ هؤلاء لا يمتلكون الأجابة الدقيقة عن موقف مرجعيّة النجف بعد وفاة السيستاني من هذا الأمر، وبدأ الصراع لأنتخاب مرجع أعلى للشيعة بالعراق ودور إيران في حسم الصراع لصالحها عن طريق تأثيراتها الظاهر منها والباطن، متناسين على ما يبدو من أنّ التفسير الشيعي لمن له الأهليّة في قيادة الدولة إنتظارا لظهور المهدي، ينبع من إيمانها في أنّ الإمامة هي إمتداد للنبوّة، وأنّ المرجعيّة الدينية هي التي عليها قيادة الدولة والمجتمع إنتظارا لظهور المهدي المنتظر، أي أنّ المرجعيّة هي من تحدد شكل الدولة وهيكليتها وهي من تقودها، والتي ستكون بعد وفاة السيستاني أي مرجعيّة النجف إيرانيّة في فتاواها ونهجها بقوّة الأحزاب الشيعيّة تشريعيا وتنفيذيّا وبسطوة ميليشياتها "العراقيّة" المسلحّة التي أخترقت جسد "الدولة" العراقيّة.

 الأسلام السياسي ومعه مؤسساته الدينيّة اليوم يعملون على قدم وساق لتشويه العلمانيّة بإعتبارها مناهضة للدين ومصادِرة لحقوق المؤمنين، ويسخّرون في هذا الأتجاه كل طاقاتهم الفكريّة والأعلاميّة ومنها منابرهم الدينيّة لتكفير العلمانيّة كنظام للحكم. فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنيّة" كتلك التي يتعايش الإسلاميّون اليوم معها، أم الى دولة علمانيّة ديموقراطيّة لتكن بوابّة لبناء عراق جديد؟

 (1) نظرة مقارنة في دستور (1925) ودستور (2005)، عبد الغني الدلي (وزير سابق) صحيفة المدى

(2) ابو علي المودودي، الخلافة والملك، دار القلم الكويت، تعريب أحمد إدريس، ص 16

(3) نظرية الدولة في الإسلام، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

(4) صحيفة النور 17: 252.

(5) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 28.

(6) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 51.

(7) الإمام الخميني، كشف الأسرار: 221 ـ 223.

(8) المصدر نفسه: 223.

(9) يوسف القرضاوي مقالة تحت عنوان " دولة مدنية مرجعيتها الإسلام.. كيف؟

عرض مقالات: