عادة ما تتجه المراكز البحثية في البلدان الديموقراطيّة وهي تريد أستقراء الأوضاع السياسيّة أو الأقتصادية وغيرها ومواقف الجماهير منها، الى عيّنات عشوائية من الناس وأستطلاع آرائهم لغرض عرضها على صانعي القرار السياسي لأتخاذ موقف ما من قضيّة ما. لكنّ أستطلاعات الرأي لا تعني مطلقا نجاحها في تقديم صورة حقيقية للقضيّة التي أستطلع الجمهور فيها، فهناك دوما هامش للخطأ بنسب تختلف من مجتمع لآخر إعتمادا على أمور عدّة، منها أنتشار الوعي، جودة التعليم، الديموقراطية، نسبة البطالة، قوّة النقابات والأتّحادات المهنيّة، الثقة بالحكومة، الأعلام المستقل، وغيرها من تلك التي هي على تماس مع مصالح الجمهور اليومية. إنّ أستطلاع الآراء أصبحت اليوم تجارة تقوم بها مؤسسات أستطلاع لأحزاب متنافسة في وصولها للسلطة، أو حتى بين شركات كبرى تتنافس لتسويق بضائعها في الأسواق، وهذا يعني أنّ هذه المؤسسات البحثيّة تعمل على صناعة رأي عام يساعد تلك الأحزاب للوصول الى السلطة، او تلك الشركة لتسويق منتجاتها، وهذا يعني تحديدا أرباحا مالية للأحزاب والشركات المتنافسة.
يُحدّد الكثير من الباحثين في موضوعة الرأي العام وأهمّيته، على أنّ هناك رأي عام ثابت وآخر مؤقّت. كما وأنّ هناك رأي عام يُقاد، وآخر يقود. ولأننا نتحدث هنا عن العراق، فأننا سنتحدث عن الرأي العام في العراق ودوره على الخارطة السياسيّة في بلده، وموقفه من الأزمات السياسية والأقتصادية والأجتماعية التي تمر بها البلاد. لنرى إن كان هناك رأي عام عراقي بالشكل المتعارف عليه في البلدان الأخرى، ومدى أمكانية أن يلعب الرأي العام العراقي دورا مؤثرّا في "العمليّة السياسيّة" التي تقوده وبلاده نحو المجهول؟
من العوامل التي تشكّل الرأي العام وفق آراء الكثير من الباحثين ولا زلنا نأخذ العراق كمثال حصرا هنا هم الزعماء السياسيون ورجال الدين والعشائر وزعماء الميليشيات، وكم المشاكل الأقتصادية والأجتماعية التي يواجهها المجتمع العراقي، ولا نقول السياسية كون الشأن السياسي لا تهتم بها الغالبية العظمى من الجماهير نتيجة غياب ثقتها بمنظومة الحكم بأركانها الثلاثة من جهة، وغياب أو ضعف قوى سياسيّة تطمح وتعمل على التغيير، ويأسها أي الجماهير من حدوث تغيير نحو الأفضل من جهة ثانية، وكونها غير واعية لا بحاجاتها اليومية وتوفيرها للعيش بكرامة ولا بمستقبل وطنها. قد يبدو هذا الأستنتاج قاسيا، لكنّه الأقرب الى الحقيقة بشكل كبير من خلال أستقراء الأوضاع السياسية التي شهدتها البلاد منذ الأحتلال لليوم. أنّ الأنتماء الوطني بالعراق ضعيف مقارنة بالأنتماءات الطائفيّة والقومية والعشائرية بل وحتّى المناطقيّة، والقوى المهيمنة على المشهد السياسي وتشكّل الدولة والدولة العميقة في العراق اليوم تعمل على أنتشار وترسيخ الطائفية والعشارية والمناطقيّة كوسيلة لبقائها في السلطة، بل هي في الحقيقة وإن توخينا الدقّة فأنّها أي الدولة إمتداد طبيعي للنسيج الطائفي القومي المناطقي.
هناك رأي عام ثابت وآخر مؤقّت وفق الباحثين والمراكز البحثية المختلفة، والرأي العام الثابت هو الذي يرتكز على مفاهيم ثقافية ودينية وطائفية محدّدة ومشتركة بين غالبية جمهور مناطق جغرافيّة معيّنة وحتّى من أبناء تلك المناطق الذين يعيشون خارجها، ومزاج هذا الشكل من الرأي العام من الصعب تغييره، أو من الصعب تغيير غالبيته ولو البسيطة في مسائل سياسيّة مهمّة، كأصلاح أو تغيير سلطة. ولأننا لازلنا في المثال العراقي، فأنتفاضة تشرين على سبيل المثال لم تستقطب جماهير البلاد بأكملها، وأقتصرت لحدود بعيدة جدا على أبناء مناطق ذات لون ثقافي وطائفي واحد وهم الشيعة، لأسباب منها ضعف البنى التحتيّة والخدمات في المناطق الشيعية مقارنة بغيرها من المناطق ككوردستان مثلا، وكون السلطة التنفيذية بيد ساسة ورجال دين شيعة لم يقدّموا ما كان منتظرا منهم لأبناء جلدتهم على الأقل، هؤلاء الذي أنتفضوا ضد سلطة البعث في آذار 1991 تحت شعار "ماكو ولي الّا علي ونريد حاكم جعفري" وإذا بالحاكم الجعفري فاسد ولص وأذاقهم الفقر والبطالة والمرض والجهل والأميّة. والرأي العام المتحرك أو المؤقّت فهو مرتبط بوجود مشكلة ما أو مطلب ما، وموقف الرأي العام منها عن طريق تنظيم تظاهرات أو أعتصامات أو أضرابات أو وقفات جماهيرية، والرأي العام هذا سلبي أكثر ممّا هو أيجابي، كونه يبحث عن مصالحه بأنانيّة وغباء، فالسلطة تستطيع أن تقف بوجه أضراب المعلّمين أو الكادر الصحي والخدمي في مدينة أو منطقة ما في حال تنظيمهم تظاهرة أو أضرابا أو وقفة جماهيرية لتحقيق مطالبهم، لكنّ نفس السلطة ستكون عاجزة عن مواجهة أضرابات أو أعتصامات في كامل البلاد إن كانت هناك قوى سياسيّة قادرة على تنظيم هكذا شكل من أشكال النضال الجماهيري.
الرأي العام الثابت بالعراق ومن خلال تجربة ما بعد الأحتلال بل ومنذ تأسيس الدولة العراقيّة لليوم، يرتكز على أسس طائفيّة وقوميّة ومناطقيّة. فالرأي العام (بأغلبيته البسيطة على الأقل) في جنوب العراق مثلا، يتأثر لحدود بعيدة بالمؤسستين الدينيّة والعشائريّة وتتم أدارة موقفه وتوجيهه من قضايا البلاد وفق وجهات نظر رجال الدين والعشائر والأحزاب والميليشيات من تلك القضايا. وهذا ينطبق على المناطق الغربية والكوردية أيضا. وهذا يعني أنّ موقف الرأي العام عند الشيعة مرتبط بطقوس مقدّسة تنتجها وتديرها مؤسسات دينية وعشائرية وثقافية مرتبطة بهاتين المؤسستين من جهة، وسطوة رجال الدين والعشائر والنخب السياسيّة في ظل غياب الدولة أو ضعفها أو إنحيازها لجهة دون أخرى. وموقف الرأي العام في المناطق السنيّة يتم إدارته وتوجيهه هو الآخر من قبل مؤسسات دينية وعشائرية وثقافية ترتبط بهما، مع وجود نفس الدور لرجال الدين والعشائر والنخب السياسية في توجيه الرأي العام نحو حنين لماض كانت فيه أي الطائفة هي من تمتلك زمام السلطة. أمّا الكورد وهم يحلمون بوطن قومي لهم، فأنّ الرأي العام عندهم يقاد هو الآخر من مؤسسات عشائرية عائلية، مع تأثير واضح كما الآخرين للمؤسسة الدينية.
مثل هكذا رأي عام لا يمكن الأعتماد علية في قياس موقف ما من قضية وطنية بحتة، فالمجموعات الثلاث بغالبيتها البسيطة كي لا نكون قساة في حكمنا عليها لا تعرف معنى الوطنية والأنتماء للوطن، فالوطن عندها طائفة وقبيلة وعشيرة. ومثل هكذا رأي عام يقاد بسهولة الى مواقف من يقودها ويرسم سياساتها. فالمثقفون وهم أقليّة ولا يملكون وسائل أعلام ولا أمكانيات ماديّة كالتي تملكها مؤسسات الدولة التي هي أمتداد للطائفية والعشائرية كما اشرنا قبل قليل، غير قادرة في ان تلعب دور القائد في صراعها مع الطرف الآخر للتأثير في الرأي العام.
أمّا الرأي العام المتحرك أو المؤقّت، فهو رأي عام بائس وغير ميّال للمساهمة في إيجاد حلول أو مراكز ثقل لقوى مناهضة لسلطة الفساد ليمنحها القوّة على الساحة السياسيّة. فتظاهرة لعدم توفّر الكهرباء تنطلق في البصرة مثلا ويُقتل فيها عدد من المتظاهرين لا نرى تظاهرات متزامنة مثلها في مناطق أو مدن أخرى رغم معاناة أبناء تلك المناطق كما معاناة أبناء البصرة من نفس المشكلة، كي تكون ذات تأثير واضح على مزاج الناس من جهة وتحدّيهم للسلطة ودفعها لإيجاد حلول للمشكلة من جهة ثانية!
بشكل عام لا يجب أن يتحرك الرأي العام فقط بأتجاه تحقيق مطالب آنيّة وإن كانت ملحّة، بل عليه التحرّك نحو فضاءات أكبر بكثير من المطالب الآنية، فضاءات تأخذ قضايا سياسية كبيرة كتغيير شكل السلطة وترسيخ مبدأ القانون وبناء دولة مؤسسات حقيقية في ظل نظام علماني ديموقراطي، وهذه الأمور الحسّاسة والمصيرية بحاجة الى قوى سياسية قريبة من الجماهير ومزاجها من جهة، وقادرة على إقناع هذه الجماهير بضرورة مشاركتها الفعلية في ماكنة التغيير، كونها أي الجماهير هي الطاقة التي تحتاجها القوى السياسية الباحثة عن التغيير لتحريك ماكنة التغيير لأنقاذ الوطن من مستقبل تشير الوقائع الى أنّه كارثي بمعنى الكلمة.