شكلت الاضطرابات المناهضة للحكومة في 2011 وما تركته من احداث موجعة، نتيجة حتمية لغزو القوات الأجنبية يوم 9 نيسان 2003 للعراق واحتلال الولايات المتحدة الأمريكية أراضيه. اليوم باتت الصورة واضحة لأوساط واسعة من الذين تفاءلوا بالقدوم الامريكي، وبمجرد النظر إلى الصورة التي اصبحت عليها حالة الدمار التي طالت المؤسسات والبنى التحتية والتي عمل الشعب دهراً على إنشائها والحفاظ عليها. وانكشف ما تتشدق به السلطة الطائفية وأحزابها التي ورثت الحكم على يد الاحتلال، من اطراء “التحول الديمقراطي” العتيد الذي جاءت به قوات (التحرير) الأمريكية للعراق، وتصويره على أنه الملهم للتغيير في المنطقة!! وحينما وصلت رياح التغيير إلى العراق نفسه ارتعبت السلطة وجندت كل قواها ضد المتظاهرين السلميين الذين مارسوا حقا دستوريا. وفرضت حظر التجول وقطّعت الطرق وأقامت الاسلاك الشائكة وأعطت الأوامر لقوات الأمن والشرطة والجيش لضرب المتظاهرين المسالمين لمنعهم بكل الوسائل من الخروج للشارع ونظمت اعتداءات وحشية على الصحافيين ومنعت وسائل الإعلام من نقل وتداول الأخبار حول مطالب المحتجين وشعاراتهم حتى انطبق عليها المثل الشهير حين قال رجل لضيفه: كل حتى تشبع ولكن لا تقطع شيئا من الرغيف!!.
اليوم، إذ تمر الذكرى التاسعة عشر لاحتلال العراق عام 2003 يستطيعُ المحلل أن يرى أن ما جرى ولازال يجري في العراق سيقود لكوارث واحتراب وتمزيق للحمة الوطنية اذا لم يصار عاجلا إلى معالجة الاسباب وقبل كل شيء احترام حرية المواطن في التعبير والتظاهر، ويستطيع أن يرى إلى أي مدى تتصاعد الصراعات الطائفية والعرقية من أجل المكاسِب الفئوية الضيّقة. فالخلافات بين جميع الكتل المهيمنة على مجالس السلطات الثلاث لا تزال على أوَجها. ومنذ تشكيل أول إدارة حكم في البلاد على يدِ الاحتلال، لا تزال القضايا المصيرية الهامة التي تعني في الدرجة الأولى المواطن العراقي، موضع خلاف شديد، الأمر الذي يؤدي بين الحين والآخر إلى صراعات تكاد أن تقوّض مصير العراق أرضاً وشعباً، وتتجه بهما نحو المجهول. وفي مقدمة هذه القضايا الحساسة، ليس الافتقار للماء والكهرباء وأتساع الهجرة والتهجير وتصاعد عدد الأرامل واليتامى وتفشي البطالة والإرهاب والقتل على الهوية فحسب، إنما هي مسألة الحكم برمته، دستورياً ومؤسساتياً، حيث يفتقر المرجعية القانونية والقضائية والدستورية التي يمكن الاحتكام إليها، وليس إلى منطق الكتل والاحزاب العقائدية التي تتجاذبها تناقضات ليس للشعب فيها ما يعنيه لتوفير قوته اليومي. فالعمل يجري وفق المصالح الطائفية والقومية الضيقة لهذه القوى، وفق ما يسمى “ضرورة التوافق” سيئ الصيت الذي عطل كل أمور البلد. ومنها عقد البرلمان العراقي ثلاث جلسات لانتخاب رئيسا للجمهورية، باءت كلها بالفشل بسبب تلك التناقضات والصراعات لاجل الامتيازات والمصالح الحزبية والفئوية التي اوصلت البلاد الى حافة الهاوية.
ان اندلاع ثورة الشباب لأجل التغيير الشامل للنظام السياسي في العراق من جديد في تشرين أول/ اكتوبر 2019? شكل انعطافا سياسيا هاما، تكلل بسقوط الحكومة والاستجابة لمطالب المتظاهرين، كما وكشف عن ضلوع قوى خارجية في دعم الحكومة لتقتل مواطنيها بدم بارد ومنعهم من التظاهر. والاهم فضح دعايات الاحتلال بأن القوات الأمريكية قد دخلت العراق من اجل الديمقراطية وحقوق الانسان!.. لكن مع بدء استخدام الرصاص انتقل الاحتجاج إلى حالة جديدة اثر سقوط أول متظاهر شاب وهو محمد حبيب الساعدي. فقد كشف استشهاد هذا المواطن البطل النقاب عن حجم السخط الذي تكنه الطغمة الحاكمة للمجتمع العراقي.. حتى تبدو الصورة الآن أكثر وضوحاً: فان الفضاءات السياسية المستقبلية المحتملة اذا ما استمر الشباب بالاحتجاج والتمرد على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية وضد ظلم النظام وسلبه أبسط الحريات التي تكفلها الشرائع والقوانين،
فالثورة ستصبح ثورة شاملة ومن المؤكد أن تأثيرها سوف يتجاوز المناطق الجنوبية، إلى عموم المحافظات العراقية التي لن تكون بمنجى عن تأثيرها، مبشرة بتغيرات عميقة، ستشمل الوضع السياسي لنظام الحكم برمته، اذ سيعاد تشكيله من جديد ولن يبقى كما كان عليه قبل تشرين الاول 2019? وسترغم الطبقة المتنفذة، التي طالما اعتبرت المجتمع العراقي مجتمعا لم يهتم ولم يبال ما يصنعون، على اعادة حساباتها مجبرة، وسيرتفع صوت الشعب وليس قادة احزاب السلطة الطغاة الذين حظوا بمساندة بقدر أو بآخر.
منذ غزوه عام 2003? والعراق لازال يعاني من تدهور للاوضاع وخراب البنى التحتية والإقتصاد والصناعة والزراعة ومؤسسات الدولة، وتدمير للبيئة والثقافة وسرقة المتاحف والآثار العرااقية وقتل أصحاب العلم والرأي والقلم. جعل منه كل ذلك بلدا تسوده الفوضى وتتخندق فيه الطائفية وتنتعش أساليب الابتزاز السياسي إلى جانب القمع والتهديد المنظم حيث يُسرق المال العام وتوزع الامتيازات والعقارات على اطراف السلطة ولا يُسأل الشعب عن رأيه في القضايا المصيرية. وتلعب الدول الخارجية ومنها ايران في مصيره ومستقبل شعبه، كما تتحكم بقراره السيادي وتملي عليه اراداتها بما في ذلك التنازل عن العديد من حقوقه المتعلقة بالسيادة الوطنية وبأمنه القومي ـ الجغرافي والثروات الطبيعية كالنفط والمياه والحدود. كل هذا جعل المواطن لا يطمئن على حياته ومستقبله ولا يشعر بحق المواطنة ونهاية للجدار الذي شيده الاحتلال لعزل العراق عن العالم الى الابد .
ومما يثير القلق فان خطاب القوى والأحزاب خارج السلطة، منذ احتلال العراق ولازال، لا يرتقي الى المستوى المطلوب واحيانا يتسم بإزدواجية المعايير. وظل يفتقر إلى التمسك بالثوابت الوطنية والرؤية الموضوعية والشاملة في تحليل الأزمة العامة التي يمر بها البلد ومعالجة الآثار التي أفرزتها التطورات الأخيرة. وتجاهلت القوى السياسية جميعا قضايا حساسة ومصيرية، وليس هناك ما يدل على أن الحكومة ستبدل موقفها المتعنت وهي مستمرة في صم آذانها عن المطالب المشروعة، وما زالت تهدد المواطنين لكي تمنعهم من ممارسة حقهم الدستوري في التظاهر والمطالبة بحقوقهم المشروعة. علما ان حق التعبير ينبغي ان يكون حقا لا نقاش فيه لكل الفئات الاجتماعية والمهنية في كل مكان من أرض العراق الواسعة.