في ممارساته وتفسيراته الديماغوغية، يبدو ان النظام السياسي في العراق يعيد إلى الأذهان من جديد: رأيان خطيران كان قد اثارهما الدكتاتور صدام أبان حكمه أحدهما، قديم، يتعلق بمستقبل كيانه ووجوده كقوله: ((أن من يريد انتزاع الحكم في العراق من يد البعث، عليه أن يأخذ بالحسبان من انه سيستلم أرضاً محروقة وآلاف القتلى)).. أما الثاني فله دلالات فاصلة لتفعيل النمط الأول وكيفية تحقيق اهدافه ومستلزماته، حيث تردد على لسان المسؤولين قبل سقوط النظام بأيام ما أشار اليه صدام: ((من أن الحرب ان بدأت سوف لن تنتهي))، في إشارة إلى المواجهة المسلحة الشاملة، بمعنى استمرار القتال على نحو عمليات «إرجاف» أو ما يطلق عليه بحرب العصابات، والانتقال من ثم إلى خطوة تصفية العراقيين المناوئين له، تحت شعارات شعبوية كما حدث في حروبه السابقة.. فما اوجه الشبه بين هذه المواقف الظلامية للنظام السابق وتهديدات الطبقات الطائفية وفصائلها المسلحة منذ وصولها الى دفة الحكم بعد غزو العراق وسقوط صدام عام 2003 ولغاية اليوم على النحو التالي: ( استلمناها ولن ننطيها بعد مهما كلف الثمن .!)
كثيرا ما نشرت وتنشر معلومات ومغالطات سياسية وفكرية حول العديد من القضايا المصيرية التي تعني مستقبل المواطن بالاساس، بهدف اثارة الحساسيات والرعب السياسي عن قصد. وقف الاعلام كحال بعض الاحزاب والنخب السياسية غير معنيين بتفكيك تلك التهديدات ومخاطرها على مستقبل الحياة العامة وعرضها امام الرأي العام العراقي والخارجي، كما يستوجب العرف المهني والاخلاقي ذلك.
وإذا ما ربطنا بالملموس بين الممارسات السلبية لفئات وصلت للسلطة على أنقاض النظام السابق وبمساعدة المحتل الامريكي، وبين النظري لمفهوم الموقفين السائدين لدى النظام آنذاك واصحاب السلطة الحالية، سنجد بان الطبقة السياسية منذ 2003، هي الاخرى، تنتهج بعض جزئيات تلك الشعارات كوسيلة للحفاظ على مستقبلها السياسي ـ الطائفي. فما يجري في العراق من عمليات تصفوية يذهب ضحيتها المئات من الأبرياء العراقيين، لا يشكل الا نهجا شعبويا ـ عقائديا، مكملا، اصاب العراق بالصميم، مارسه النظام السابق، وتمارسه الطبقة السياسية الجديدة لحماية نفسها، خوفا من ضياع السلطة من يدها، والا ستجعل العراق مسرحا هاوياً لا للشعب أثرا فيه ولا مكان.
لقد مارست الطبقة السياسية للنظام ـ الطائفي، منذ وصولها للسلطة، لغة التهديد والادعاءات الكاذبة لما تقتضيه مصالحها، ولجأت إلى ممارسات لا تختلف في محتواها النمطي من الناحية السياسية والفكرية عما اتجه إليه النظام السابق. أنها عمدت ولأول مرة في تاريخ المجتمع العراقي إلى ترسيخ ثقافة الجهل بما ينسجم ومظاهر التخلي تدريجياً عن معايير “الوعي المجتمعي” المدنية ـ والقانونية. بل انتهجت عوضا عنها اساليب الاستبداد والقمع على هذا الصعيد أو ذاك، مع نزعة صدامية لاقتلاع هذا البلد من أساسه، وتعريض مقوماته البنيوية والبشرية إلى الخطر .
إن مما يثير الاستغراب، عدم ادراك من يهرولون وراء هذه الطبقة السياسية ـ الطائفية لاسباب اغلبها نفعية، موقفها من مسألة: البقاء في السلطة وتأمين مصالحها الفئوية والحزبية الضيقة دون منازع. وفي الجانب الآخر، المسألة الوطنية التي تتطلب بالاساس مسألتين هامتين ـ “تحقيق مصالح المجتمع وتأمين الأمن القومي جيوديموغرافيا وثقافيا وأخلاقيا”. بدل تقييد المجتمع ونموه مع المبالغة لحصر الأمور في نطاقها الضيّق لصالحها. ايضا عدم قبول واحترام أهمية توسيع دائرة المشاركة السياسية وحلحلة عقدة الحكم والدفع بها باتجاه حل الأزمات المزمنة بعقلانية.. وما يدعو للقلق تعامل القسم الأكبر من السياسيين العراقيين مع أمور بلدهم المصيرية بشكل غير مسؤول، والتنكر لمفهوم “السيادة” على صعيد الدولة المستقلة ومصالح شعبها، لقبولها الاملاءات والضغوط الخارجية وكأنها أمرا طبيعيا. ولمن الغرابة التحاق بعض اطياف المثقفين بركب المطبلين لاحزاب السلطة وما يسمى بالعملية السياسية مع ادراكهم زيفها عمليا ونظريا. الأمر الذي جعل الأزمة السياسية تتأرجح بين النهج القديم والانهيار الكامل الذي سيسببه الطرف الآخر في المعادلة السياسية الذي اتكلت عليه الإمبريالية الأمريكية بعد 2003. وكلاهما يشكل خطرا ماساويا لمستقبل العراق ومجتمعاته.
علينا اذن، ونحن نقف وسط الازمات الدولية التي تلوح مخاطرها على الجميع، ان نحذر وبشدة: بإن نظرية صدام، عدم إعطاء الفرصة لأي طرف عراقي تحقيق أحلامه السياسية وحكم البلاد بالطريقة التي يراها مناسبة لخير البلاد والعباد، هي ذات النظرية التي يدور في فلكها اصحاب السلطة الطائفية على مدى تسعة عشر عاما كما تؤكد الأحداث ذلك. على سبيل المثال لا الحصر، ما يرد على لسان منتسبي هذا البيت الطائفي او ذاك، من تهديدات مسلحة “الحرب الاهلية” لمواجهة اي رياح سياسية تمنع بقاءه بالسلطة حتى وان كانت بالطرق الديمقراطية، السلمية والدستورية.
إن الجماعات والاحزاب المهيمنة على الدولة ومؤسساتها المختلفة منذ تسعة عشر عاما في كافة أنحاء البلاد ومحافظاتها، لا يخطر ببالها سوى البقاء في دائرة الحكم والتضييق على حلحلة العقدة السياسية لتشكيل الحكومة العتيدة ورئاسة الجمهورية. فاصبحت تشكل عاملا خطيرا يدفع بالحياة الاجتماعية إلى مسرح العنف، ومن ثم الانتقال تدريجياً إلى صراع منظم وحاد، بين جميع الكيانات والأحزاب والتكتلات، مما يضع العراق أمام خطر، يجعله ممزقاً وضعيفاً بالشكل الذي أراد له النظام المباد ويسعى لتحقيقه من لا يفهم فن السياسة ومهاراتها في صناعة التطور والبناء وسعادة المجتمع.
لننتظر ما سيتمخض عن اتفاق المالكي ـ الصدر، الذي لازال لا يبشر، ما اذا المساعي ستكون محمودة، وحكومة ذات دور مركزي ستتشكل، تختلف عن الحكومات السابقة، بامكانها تدارك الازمات والمفاهيم بالاتجاه الذي يجعل من الوعي السياسي والاجتماعي مظهرا من مظاهر التحدي للحروب وصناعة الديكتاتورية، وتبني الثقافة الوطنية الحقيقية، بدل العنف والجهل، لتكون بداية عهد جديد في العراق من مبادئه تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والفكري لجميع شرائح المجتمع العراقي دون تمييز، ومواجهة الأفكار الداعية للطائفية والترويج للتعصب الشوفيني والايديولوجيا الشمولية الداعية لحرق الأرض ومن عليها.