إذا كانت المشاركة بالانتخابات حق وممارسة ديمقراطية، فان عدم المشاركة فيها، هي الأخرى حق وممارسة ديمقراطية. وعادة ما تلجأ قوى سياسية وحركات اجتماعية وشعبية إلى مقاطعة الانتخابات في البلدان التي تصل فيها محاولات تجاوز الأزمات إلى طريق مسدود. وتعمل القوى المهيمنة إلى افراغ الانتخابات كآلية سلمية ديمقراطية للمشاركة بالحكم وتداول السلطة من محتواها وتحويلها إلى غطاء لتأبيد النظام السائد، مستخدمة أساليب لم تعد خافية حتى على البعيدين عن الاهتمام بمجريات الصراع السياسي، مثل سن قوانين على مقاساتها، واحتكار المؤسسات المعنية بالشأن الانتخابي، والتخويف من خطر داهم كالإرهاب، خطاب التضليل الشعبوي دينيا كان أم قوميا، المال السياسي، والسلاح الموازي، كما هو الحال في والعراق، الذي سوف لن يكون البلد الأخير الذي يشهد اللجوء للمقاطعة. وبالتأكيد فان هذه المقاطعة لا تنحصر في حزب سياسي او حركة او تيار، وهذه التعددية تنتج بالضرورة تعددية في الرؤى والأسباب التي يعتمدها هذا الطرف او ذاك.

الانتخابات المبكرة التي فرضها منتفضو تشرين الابطال تشهد اتساع ظاهرة المقاطعة، التي بدأتها أحزاب صغيرة تنتمي إلى تيار الإسلام السياسي المهيمن على المشهد السياسي الرسمي، فكان انسحاب حزب الدعوة تنظيم العراق بزعامة عبد الكريم العنزي، وفي 9 أيار أعلن الحزب الشيوعي العراقي، على خلفية اغتيال الشهيد إيهاب الوزني، تعليق مشاركته في الانتخابات، ولاحقا أعلن الحزب قرار المقاطعة، ننتيجة لاستفتاء عام لتنظيماته، مثل ظاهرة ديمقراطية نوعية وغير مسبوقة بسعتها لا في الحزب فقط، بل في عموم الحياة الحزبية العراقية. وكذلك اعلان حزب "البيت الوطني" الخارج من معطف انتفاضة تشرين مقاطعته هو الآخر للسباق الانتخابي، ثم جاء اعلان السيد مقتدى الصدر انسحاب تياره من المشاركة في الانتخابات المبكرة. وتوالت الانسحابات لرموز تقليدية لعبت في السنوات الأولى من العملية السياسية دورا هاما فيها مثل الدكتور اياد علاوي، والدكتور صالح المطلك، والتحق الحزب الجمهوري لعاصم الجنابي بقاطرة المقاطعين، التي تنتظر ربما ملتحقين جدد.

والمتابع للمناقشات الجارية بشأن المشاركة او المقاطعة، وهي مناقشات يخضع الكثير منها للعبة الاثارة الاعلامية ومستوى الاعلام السائد، يجد ان منهجية القوى المنسحبة متباينة جدا، وعليه فان الأهداف المرجوة من المقاطعة ستكون بالضرورة متباينة هي الأخرى. وإذا تابعنا تفاصيل هذه المناقشات سنجد ان انسحاب حزب الدعوة تنظيم العراق، الذي لم يحظ باهتمام كبير من الاعلام، جاء لان هذا الحزب، ونتيجة لقانون الانتخابات النافذ، وفشل الحزب في دخول تحالف كبير يوفر له دورا حتى وان كان محدودا في البرلمان الجديد، ويبدو ان انسحابات المنبر العراقي برئاسة الدكتور اياد علاوي، وجبهة الحوار الوطني برئاسة الدكتور صالح المطلك جاءا لقناعتهما، ان أي نتيجة يمكنهما الحصول عليها، هذا ان حصلا على شيء، سوف لن توازي الدور الذي لعباه في العقد الأول من عمر النظام السياسي الحالي.

لقد تمتع انسحاب التيار الصدري بأهمية إعلامية وسياسية، مرتبطة بسعة التيار، ومشاركته الاساسية في جميع الحكومات الاتحادية والمحلية، فضلا عن قدراته الجماهيرية والعسكرية. ومعروف ان أسباب انسحاب التيار الصدري مختلفة وترتكز على عدة تكتيكات محتملة، منها مخاطر انخفاض عدد ما سيحصل عليه من مقاعد برلمانية، بسبب نظام الدوائر المتعددة، التي سوف لن تفلت من كماشته جميع القوى التي ستخوض الانتخابات، في حال اجرائها، وبالتالي صعوبة حصول التيار كما كان يسعى على رئاسة الوزراء، فضلا عن رفضه، كما يقول ممثلوه المشاركة في تدمير العراق، على خلفية تفجر صراع بين أطراف الإسلام السياسي الشيعي غير محسوب العواقب. وكذلك التغيير في التكتيكات الامريكية -الإيرانية في إطار الصراع الدائر بينهما، والذي يمثل العراق احدى ساحاته الرئيسة، وبالتالي يؤثر هذا التغيير على القوى المهيمنة على المشهد السياسي العراقي، ومنها التيار الصدري. وأيضا  توظيف التيار الصدري سلاح المقاطعة للضغط على المنافسين، وهو امر يجعل احتمال عودة التيار مجددا للمشاركة بالانتخابات، امرا واردا، ولكن يبدو ان لدى التيار قناعة بعدم اجراء الانتخابات المبكرة اصلا.

اما مقاطعة الحزب الشيوعي والقوى التشرينية، واية قوى قد تقاطع من قوى معسكر التغيير الحقيقية، فتستند إلى مؤشرات المقاطعة الشعبية الواسعة، وإلى القناعة بعدم قدرة النظام السياسي الحالي على اصلاح نفسه، وان الانتخابات المقبلة، هذا ان أجريت، فسوف تعيد شرعية شكلية لنظام المحاصصة والفساد، ولم تأت بجديد، لان المطلوب تغيير النهج، أي تفكيك النظام السياسي الفاشل، وبما ان شروط تنظيم انتخابات عادلة ونزيهة غائبة، فان النتائج محسومة سلفا، وبالتالي فان الحديث عن التغيير عبر صناديق الاقتراع قضية مؤجلة. وعلى الرغم من ذلك لم يتعب الاعلاميون ومقدمو البرامج الحوارية من محاولة الربط بين انسحاب الشيوعيين والصدريين عملا بالإثارة الإعلامية حينا، ولتحجيم أهمية الموقف المتقدم الذي تبناه الشيوعيون. 

ان ما أشرنا اليه لا يمنع جميع القوى المقاطعة من توظيف حقائق فشل الأداء الحكومي، والخراب الاجتماعي في خطابها السياسي والإعلامي. وان تبني موقف المقاطعة في الإطار السياسي العام سيكون على صعيد الشكل مشتركا، على الرغم من التباين الجوهري بين قوى المقاطعة التقليدية، صاحبة الأدوار المؤثرة منذ الانتخابات الأولى في عام 2005، وإلى الآن، وقوى التغيير التي تبنت المقاطعة، على أساس المتغيرات التي احدثتها انتفاضة تشرين الأول 2019 البطلة، وعلى أساس سعيها الجدي لتجاوز نظام المحاصصة ومنظومة الفساد. وطبيعي جدا ان تسعى القوى التقليدية المقاطعة إلى الحديث عن خيمة واحدة تضم المقاطين، لاحتواء الجميع  ولتوسيع مساحة نجاحها كما ترى.

 ومن هنا فان قوى التغيير مدعوة للحفاظ على المسافة بينها وبين القوى الاخرى، انطلاقا من كون المقاطعة بالنسبة لها تمثل مدخلا لعملية نضالية تعبوية على طريق تحقيق التغيير المنشود، وان هذه المسافة تحميها من عمليات التشكيك وعدم اليقين المرتبطة بتحليلات وتجارب سابقة اكدت الحياة انها غير منتجة وان اية مجاملة في هذا السياق سيكون لها تأثيرات سلبية على تعبة قوى التغيير.

عرض مقالات: