لا أنسى أبداً ما سمعته، مرّة، على لسان الشاعر مظفر النواب في حديث إذاعي أجري معه، عمّا تركته الفترة التي قضاها في أهوار العراق، في ما أسماه تأثير البيئة المائية في تكوين وجدان الإنسان، والفنان خاصة. قال ما معناه: إن البيئة المائية، حيث النهر أو البحر أو البحيرات، تجعل من الناس أكثر رهافة وحساسية ورقة، وعزا لهذه البيئة ما عليه شعره، خاصة الشعبي منه، من رقة وعذوبة.
والشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة التي رحلت عن الدنيا في مهجرها البعيد جداً عن العراق تنحدر من طائفة الصابئة المندائيين الذين ورد ذكرهم في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، وهي من أقدم الديانات الموحدة، وأعرق الطوائف في تاريخ العراق والمنطقة، وعرفوا بحرصهم على القرب من النهر، حتى إنهم يعتبرون منطقة ميسان عاصمتهم المقدسة، لهذا السبب، كون النهر سبيلاً لتطهير الأنفس من الخطايا.
هل ورثت لميعة من قومها القريبين من النهر، تلك الرقة التي طبعت شعرها: العامي منه والفصيح، حتى لتكاد تشعر بأن الماء الزلال يسري في قصائدها، مذكرة إيانا بما قاله مظفر النواب عن الشعر والماء.
وكمثال على هذه الرقة، أحببت أن أنقل لكم مقطعاً من إحدى قصائدها العاطفية الجميلة المكتوبة بالعامية العراقية الجميلة والعذبة، نشرته الكاتبة إنعام كجه جي على صفحتها، يقول: «أرد أسألك بحسن نيّة/ ومحلّفك بالله تردْ/ ربك لمّن صوّرك/ چم يوم طينك نكَعه بماي الورد؟».
نُشرت أول قصيدة للميعة وهي سن الرابعة عشرة، وحين قرأ الشاعر إيليا أبو ماضي، الذي كان صديقاً لوالدها، قصيدتها كتب قائلاً: «إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق؟».
محظوظاً كان أبو ماضي؛ لأنه غادر الدنيا قبل أن يرى الزمن الذي بات فيه الشعراء والشاعرات، والأدباء والأديبات، والفنانون والفنانات، الذين صنعوا نهضة العراق في الشعر والأدب والرسم والنحت والموسيقى والغناء والعمارة وكل مجالات الإبداع، يغادرون الدنيا، واحداً تلو الآخر، في المنافي، قصيّة كانت أو قريبة، وتُوارى جثامينهم الثرى في بلدان الصقيع بعيداً عن دفء العراق وشمسه ومياهه ونخيله وشعبه الذي أنجب كل هؤلاء العمالقة الذين صنعوا مجده.
أمن علامة أشدّ وجعاً من هذه؛ أي أن يجد هؤلاء الملاذ في المنافي بعيداً عن الأرض التي انغرست جذورهم فيها، حتى وهم بعيدون عنها، على ما اقترفته الديكتاتورية المستبدّة، ومن تلاها من أمراء الطوائف الفاسدين، ومن عصابات الإرهاب والظلامية، بحق هذا البلد العظيم!

عرض مقالات: