في الوقت الحاضر، هناك إجماع نسبي من قبل المحللين الدوليين حول تصاعد الصراعات العسكرية والسياسية والاقتصادية بين القوى العظمى، ولا سيما بين الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا. وترجع جذور هذه العملية إلى نهاية الحرب الباردة عندما أعادت الولايات المتحدة تشكيل ستراتيجيتها العالمية وأرست قواعد نهج موجه ضد جميع التهديدات الإقليمية المعرقلة لهيمنتها العالمية.

وبدلاً من تقليص وجودها العسكري الخارجي بعد انتصارها على الإتحاد السوفييتي في هذه الحرب الباردة، زادت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية في العالم منذ ذلك الحين. فعلى سبيل المثال، توسعت منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) من خلال ضم اثني عشر عضواً جديداً منذ عام 1999. وتمتلك الولايات المتحدة ثمانمائة قاعدة عسكرية أجنبية في جميع أنحاء العالم في عام 2015، في حين أن بقية القوى العظمى لم تمتلك سوى ثلاثين قاعدة فقط خارج حدودها. علاوة على ذلك، خاضت الولايات المتحدة وحلف الناتو صراعات وتدخلات وحروب مختلفة منذ عام 1991. أولاً ، يمكن للمرء أن يذكر التدخلات في البلقان خلال التسعينيات، ثم سلسلة الحروب في الشرق الأوسط لاحقًا ضد أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، على سبيل المثال.

بالمناسبة، كل هذه القوة تتطلب القدرة على دعم النفقات بنسبة تفوق تلك النفقات التي تتحملها الدول الأخرى. علاوة على ذلك، لا يدفع المواطنون الأمريكيون نفقات كل هذه الأعمال والوجود والهياكل العسكرية في جميع أنحاء العالم. فهذه النفقات تعتمد على مكانة العملة الأمريكية في النظام النقدي الدولي، والطريقة التي يعمل بها هذا النظام منذ الثمانينيات.

يتعين على جميع الوكالات الدولية العامة والخاصة العمل على أساس الدولار الأمريكي لتنفيذ عملياتهم في الخارج. كما يتوجب عليها أيضاً تكديس موازنة موجبة بهذه العملة. وبهذه الطريقة فقط، يمكن للسلطات العامة التعامل مع التدفقات الرأسمالية غير المستقرة التي تعتبر نموذجية في النظام الاقتصادي العالمي الحالي. وإلا فلن يتمكنوا من العمل من أجل الحفاظ على قيمة عملتهم في أسواق الصرف، وأيضاً ضمان استقلالية سياستهم الاقتصادية. لهذه الأسباب، فإن أفضل استراتيجية اقتصادية وسياسية يتبعونها هي تكديس احتياطيات النقد الأجنبي بالدولار الأمريكي لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف الوطني وأيضاً توفير بعض أنواع ضوابط رأس المال لتجنب الحركات غير المستقرة.

لذلك، وبالإرتباط مع  انتشار هذه الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية بين البلدان، برز طلب قوي على الأصول المالية المقومة بالدولار. وتحاول جميع البلدان في العالم الحصول على احتياطيات متزايدة من الدولار الأمريكي، وخاصة سندات الدين الحكومية الأمريكية (الكمبيالات والسندات). ويبدو أنه قد جرى طلب لا محدود على هذا النوع من الأصول في النظام الدولي الحالي. هذه الحقيقة سمحت لحكومات الولايات المتحدة بالخروج من تبعات الإنفاق النسبي والاختلالات المزمنة في الاقتصاد. وبشكل عام، مكّن العالم كله الولايات المتحدة من شن الحروب والتدخلات في جميع قارات العالم.

وإذا ما اعتبرت هذه  الذرائع صحيحة، فقد يتساءل المرء، ما هي أسس مكانة الدولار كمعيار نقدي؟ خلال الحرب العالمية الثانية، تمكنت الولايات المتحدة من فرض عملتها بوسائل مختلفة. بادئ ذي بدء، كانت هناك سياسة الإقراض القائمة على برنامج تزود الولايات المتحدة بموجبه الغذاء والنفط لجيوش الحلفاء. وأنهت جميع البلدان الصراع وهي مدينة بالدولار، بما فيها الدول المهزومة في الحرب، وخاصة ألمانيا واليابان، التي تم تحديد ديون إعادة إعمار ما خربته الحرب بالدولار الأمريكي حسب معاهدتي يالطا وبوتسدام.

ثانياً ، كانت الولايات المتحدة "مركز ثقل إنتاج النفط العالمي" حتى نهاية الحرب، ومنذ عام 1945 فرضت سيطرتها على المركز الجديد، المملكة العربية السعودية، لضمان تسعير النفط بالدولار الأمريكي. ومنذ ذلك الوقت ، كان على كل دولة تحتاج إلى استيراد النفط أن تدفع الثمن بالدولار.

ثالثاً ، في فترة ما بعد الحرب، توجب على جميع المؤسسات المتعددة الأطراف الجديدة، مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، التعامل بالعملة الأمريكية كمرجع في اتفاقياتها الرئيسية.

وأخيراً، عززت استراتيجية إعادة إعمار اليابان وأوربا الغربية، المعروفة باسم خطة مارشال والمرتبطة بمبدأ ترومان، مكانة الدولار الأمريكي كمعيار نقدي دولي. ومن ثم، أصبح الدولار الأمريكي الوسيلة لتلقي الدعم المالي وطرق المساعدات الأخرى. ومنذ ذلك الحين، أضحى تسعير النفط والمرجع النقدي في المؤسسات متعددة الأطراف ركيزتين أساسيتين للدبلوماسية الأمريكية في الدفاع عن الدولار كمعيار دولي.

لم يكن كل ذلك على الإطلاق خياراً للسوق ولا نتيجة لمفاوضات مكثفة بين الدول المختلفة. لقد كان على الدوام نتاج الخلافات بين القوى العظمى من خلال المزايا المتعلقة بالمعيار النقدي. أولاً ، إن المعيار النقدي يسمح للعملة الدولية بتوسيع قدرة الإنفاق للدولة التي تصدر العملة، جراء زيادة الطلب على الأصول المقومة بها. إلى جانب ذلك، فإنها تخلق مزايا لتدويل بنوكها، وهي التي يمكن أن تعمل وفقًا للمعايير النقدية الدولية بشكل أسهل من أي طرف آخر. أخيراً ، تصبح العملة أداة للسياسة الخارجية لأن الدولة، التي تعتبر نقدها هو المعيار الدولي ، يمكن أن توفر السيولة للحلفاء وتضغط على المنافسين.

في هذا السياق، وجهت مبادرتان في الآونة الأخيرة ضربة بشكل مباشر صوب أهم قواعد العملة الأمريكية في العالم. الأولى هي المؤسسات المالية المتعددة الأطراف الجديدة القادرة على التنافس مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإستقرار القروض والتمويل الدولي. فإذا ما تم ترتيب الاحتياطي الطارئ لدول بريكس (BRICS) وبنك التنمية الجديد لدول البريكس، فسوف يؤدي ذلك إلى  أن تفقد سلطة مؤسسات بريتون وودز من فاعليتها. وفي حالة النجاح والتوجهات العالمية، ستكتسب مؤسسات البريكس القدرة على الضغط على التسلسل الهرمي النقدي الدولي الحالي من خلال إعتماد عملة أخرى غير الدولار الأمريكي.

لقد إنطلقت المبادرة الثانية لإزالة التعامل بالدولار بشكل حقيقي في خضم الخلافات حول العملة التي يجري بها تسعير النفط المتداول دولياً. في عام 2018، أطلقت الصين أول "رينمينبي" (بترويوان) لعقود النفط المتداولة في سوق العقود الآجلة في شنغهاي، لتنافس أسواق نيويورك ولندن، حيث يجري التفاوض على مثل هذه العقود بالدولار. وزادت روسيا من جانبها، الاتفاقيات الثنائية للتجارة بغير الدولار، بما في ذلك بيع نفطها. كما قامت بتجريد جزء كبير من احتياطياتها بالدولار والإعلان عن إصدار سندات الدين السيادية بالعملة الصينية. وأعلنت الحكومة الفنزويلية عن نية مماثلة لتقليص عملياتها بالدولار في معاملاتها الدولية. ومع العلم أن فنزويلا أصبحت تمتلك أهم احتياطي نفطي في العالم متجاوزة المملكة العربية السعودية. كما طبقت دول أخرى، مثل إيران، سياسات مماثلة.

لقد أماط لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الرئيس السابق للبرازيل (2003) في مقابلة في عام 2019 ، اللثام عن المشكلة للصحفي بيبي إسكوبار.

"في اجتماع مجموعة بريكس في فورتاليزا (2014)، تحدثت مع رفيقي في الحزب ديلما (رئيس البرازيل آنذاك، 2011) إن على البرازيل أن تعقد اتفاقًاً شبيهاً إلى حد بما فعلته روسيا مع الصين، ميثاق عظيم. لم يتم إنشاء البريكس كأداة دفاعية ولكن كأداة هجومية. كان عليها سك عملتها حتى لا تعتمد على الدولار في العلاقات التجارية. وكانت الولايات المتحدة خائفة جداً منه. اتصل بي أوباما ذات مرة يسألني عما إذا كنا نتطلع إلى إنشاء عملة جديدة، وقلت لا، أنا فقط أحاول التخلص من الدولار. لا أريد أن أكون تابعاً ".

ومن المثير للاهتمام أن نتذكر أنه بالتزامن مع هذا الحدث في عام 2014 ، تم عقد قمة بين بريكس واتحاد دول أمريكا الجنوبية (USAN) ، حضرها قادة من روسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا والأرجنتين وبوليفيا وتشيلي وكولومبيا والإكوادور وغيانا وباراغواي وبيرو وسورينام وأوروغواي وفنزويلا والبرازيل. ووجد اتحاد دول أمريكا الجنوبية لأول مرة مساحة للتفاوض مع أطراف دولية بدون الحاجة إلى الولايات المتحدة، فهي تختلف عن منظمة الدول الأمريكية (OAS). في الواقع من خلال البريكس و(USAN)، أصبحت البرازيل الرابط بين أمريكا الجنوبية والمتحدين الحاليين للولايات المتحدة في النظام الدولي، روسيا والصين.

بعد ذلك بعامين، سحب البساط من تحت ديلما روسيف، وبعد عامين آخرين، تم القبض على لولا دا سيلفا، السياسي الأكثر شعبية في البلاد، ليس بسبب التغيير الذي طرأ على السياسة الخارجية البرازيلية منذ عام 2016، ثم أعيدت البرازيل إلى تقليد الاصطفاف التلقائي مع واشنطن، وهو نهج غير مواتٍ لا البريكس ولا لـ USAN.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ماوريسيو متري أستاذ مشارك في معهد العلاقات الدولية والدفاع التابع للجامعة الفيدرالية في ريو دي جانيرو (UFRJ) ، البرازيل ، وبرنامج الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي الدولي (UFRJ). دكتوراه وماجستير وخريج في فرع الاقتصاد.م.

 

عرض مقالات: