تُستهدف هذه الايام المحكمة الاتحادية كضحية اخرى، واخر ركيزة متبقية للدولة العراقية، بغية استكمال انشاء " الدولة الثيوقرطية ـ الدولة الدينية " والهيمنة المطلقة على النظام السياسي العراقي. مع ان هذا التوجه كان مستمراً بتكتيك شبه ساكن ولكنه محسوب الخطى بدقة نظراً لاهمية الركيزة القانونية الحاكمة، و قد تصاعد مؤخراً بوتيرة متسرعة لاغياً اي نوع من التحفظ او الخشية لكون الامر يتعلق بالرهان على " معركة المتاريس الاخيرة " اي قبيل اجراء الانتخابات القادمة التي يبدو انها ستقلب معادلة الحكم التي لا امل ببقائها نظراً لكونها باتت مسجّات بنعش الرحيل الابدي.
فبأي سلاح يمكن حماية موكب التسلط والمرور لتنصيب " العرش" وسط زخم الحراك المدني الجماهيري المنتفض، وبعد ان ادت دماء الشهداء الشباب الى اسقاط الرصاص والقناص.. يبدو لم يبق اي سلاح قادر على الحماية سوى البراقع الدينية، لكونها ذات قدسية معينة لدى اوساط من الشعب العراقي. فكانت المحكمة الاتحادية القربان المطلوب ذبحه، وقراءة سورة الفاتحة على نظام الديمقراطية والدولة المدنية.. غير ان الامر ليس بهذه البساطة فلم يتيسر المرور ايضاً. حيث صعود الصوت المدني المدوي في الشارع الذي كان ائذاناً ودعوة لايقاف زحف الفساد والخراب، ومنعه من الوصول الى سرقة القضاء حامي العدالة، كنهاية لمطاف النهب المنظم.
وبذلك اعلن المواطنون المدنيون وبصوت عال رفضهم للهراوة الدينية حيث انها قد جربت لفترة ثمانية عشر عاماً ولم تحقق ضماناً يذكر للحرية ولا للعدالة و لا لحياة كريمة للناس. بل في ظلها زاد الفقر وتجسد الخداع باتعس اشكاله وامتد الفساد عرضاً وطولاً وتعمق الفشل متصاعداً ووصل الى الهامة.
ومن جراء هذه المصيبة التي جلبها علينا الاحتلال الامريكي والتدخل الاقليمي، قد سُلبت السيادة الوطنية وضاع استقلال البلد ووضعت وحدته على مذبح التقطيع والتقسيم، مع هذا لم يهتز ضمير "نواب الشعب" وكان البؤس الذي تحلى به البرلمان قد شكل عاملاً لتشجيع الاطماع والتدخلات واستباحة الحرمات الوطنية. لا بل جرى استخدامه لفرض اجندات الدول الاجنبية. واليوم نراه يتحول الى اداة ظالمة لمصادرة الحريات والديمقراطية، التي وضعت الاعتبار لهؤلاء النواب ذاتهم، وامسكتهم سلطة التشريع التي ينبغي ان تستخدم لاغراض بناء الدولة وليس لبيعها او لتحويلها الى نسخة من اشكال الحكم الظالمة المستبدة في بلدان الجوار وغيرها.
وبعد التجليات والمواقف البائسة للبرلمان حيال سلامة المحكمة الاتحادية الركن المتبقي الوحيد من الدولة العراقية، والتنكر لارادة وتطلعات الشعب العراقي بات النواب المجافون لحقوق الناس مناهضين للمهام التي انتخبوا من اجلها وعليه قد جردوا انفسهم من حق التشريع باسم الشعب، وبالتالي لا يجوز لهم ان يقرروا مصير المحكمة الاتحادية، واي اجراء من قبلهم بهذا المنحى يكون خالياً من المشروعية الوطنية التي فوق كل اعتبار. هذا وناهيك عن انهم سيسجلون على انفسم دعوة قضائية سوف لن تنتهي بتقادم الزمن، بل سيتلقون جزاءهم عاجلاً ام اجلاً.