لأن وعي الناس باختلافهم واختلاف مصالحهم هو الذي يوجه الصراعات فيما بينهم، فأن كل صراع اجتماعي - سياسي في مجتمع ما، يستند الى أشكال الوعي الجمعي السائدة في اللحظة التأريخية للصراع. فالمجتمعات التي تعيش وعيا قبليا، لا يفهم أفرادها الصراعات فيها أو في محيطها إلا باعتبارها صراعات قبلية. وفي المجتمعات التي خرجت قبائلها من الصراع فيما بينها وتلاحمت في كيان قومي، يسعى الأفراد الى ترسيخ ذلك الكيان وينظرون الى كل صراع، باعتباره صراعا قوميا. وحين يسود الوعي الديني يعتبر الناس ان الدين هو أساس الصراع والسلام بينهم وبين الآخرين.
ولا يأخذ الصراع طابعا سياسيا، إلا بعد تجاوز مستويات الوعي الجمعي التي أشرنا اليها آنفاً، واكتساب غالبية أفراد المجتمع، وأوسع أوساطه، وعيا مواطناتيا، تسقط فيه بينهم الحواجز القبلية والقومية والدينية البائدة، ويتركز فيه الصراع حول قيم اخرى مثل المساواة والعدالة والحريات. وفي الحقبة التي تعيشها مجتمعاتنا حاليا يتوزع ذهن الفرد بين مستويات الوعي القبلي والقومي والديني والطائفي، أمر يبقى صراعاتنا في هذه المجالات حتى وان انتحلت زورا صفة الصراعات السياسية.
ويعبر عن هذه الحقيقة أوضح تعبير تصدي رموزنا القبلية والقومية والدينية والطائفية لقيادة التشكيلات التي تطلق على نفسها اسماء أحزاب سياسية، وتتحاصص مقاعد الهيئات التشريعية والتنفيذية وغيرهما من المؤسسات التي تتحكم بمجتمعاتنا وتسعر الصراعات فيها.
ولهذا فأن مهمة قوى التنوير والتقدم في هذه المرحلة ينبغي ان تتمحور حول عملية التنوير، والحد من تأثير الأفكار القبلية والطائفية على الفرد، للمساعدة على تنمية أنماط وعي جديدة، تستند الى قيم الحرية والعدالة والمساواة وليس تجاوز ذلك الى طرح رؤى وافكار أيديولوجية وفلسفية عصية على استيعاب الفرد العادي.
ويستلزم القيام بهذه المهمة ان تميّز قوى التقدم والتنوير نفسها تماما عن الجماعات والتيارات ذات المرجعيات الدينية والطائفية، وتحذر من التداخل معها بأي شكل من الأشكال، لأن اي تداخل أو تعاون أو تحالف مع تلك الجماعات يشوه الموقف، ويخلق التباسات غير مفهومة لدى الفئات والشرائح والأوساط التي يراد مساعدتها على تجاوز مستوى الوعي المتخلف.