في عودة لأحداث الانقلاب المشؤوم و من الهام الذي نشر عنه . . .

.  .  .

في غمرة الأحداث العاصفة التي مرّت و تمرّ بها البلاد، تحدّث حازم جواد فجأة ودون سابق انذار، وبعد غياب عن مسرح الأحداث السياسية وهو الذي كان القيادي البارز من ابرز اربعة اشخاص، كانوا مسؤولي انقلاب 8 شباط الدموي في العراق. تحدث بعد غياب عن مسرح السياسة منذ انهيار حكومة الأنقلاب الدموي، وبعد مرور اربعين عاماً على ذكراه المؤلمة، ذكرى اكبر مجزرة في الشرق الأوسط عهدذاك، التي لم يفوقها سوى انقلاب اندونيسيا الذي تسبب بمقتل اكثر من مليون مواطن، بقيادة الدكتاتور سوهارتو، آنذاك .

بدأ حديثه في مقابلة اجراها معه الصحافي غسان شربل في صحيفة الحياة اللندنية عام 2004، ( اعداد 9 ـ 18 / 2 / 2004 )  باعتبار ان انقلاب 8 شباط، كان محاولة لـ ( تحقيق وحدة العرب ومن اجل سعادة الشعوب العربية والوقوف بقوة امام اعدائها ؟! )  الأمر الذي لم يؤدّ الاّ الى نكئ الجرح العراقي الكبير، في محاولته اليائسة الى تكذيب وتسفيه ما اعلنه عدد من قادة الأنقلاب واقرب رفاقه اليه، عن عمق وسعة الخطأ المأساة في ذلك الأنقلاب الذي جرّ الى ويلات ومذابح نقلت البلاد الى مشاكل وتعقيدات اكبر وعطّلت طاقاتها في التقدّم والرقي الحضاري (1).

ان ماتحدّث به حازم جواد لايذكّر الاّ باستمرار وجود اشخاص في مراكز القرار، لايفكّرون الاّ بأنفسهم ومشاريعهم، غير مبالين من انها قد تكون على حساب سعادة وحياة الملايين من ابناء شعبهم. ان حديثه ومحاولته القائه الذنب على الآخرين وعدم تورّعه عن المس بذكرى شخصيات ورموز مثّلوا ويمثّلون الضمير الشعبي الذين لم يخسرهم الشعب الاّ على ايديهم هم : من الزعيم عبد الكريم قاسم والشهيد سلام عادل و رفاقه الميامين الى الشهداء فؤاد الركابي و رجال دين افاضل كبار .  .  يؤكّد مجدداً ان على العراقيين لمّ الصفوف وتوحيد الكلمة والاّ فهاهم موجودون، انهم يشعرون انها فرصتهم وليست فرصة قوى الشعب العراقي في تحقيق شئ من الفرح والأستقرار،  بعد ان طغت الأحزان وسادت لعقود من السنين .

هل فعلاً، لايتصوّر السيد جواد ماذا فعل انقلاب شباط 1963، الأنقلاب الذي اهان وعذّب الشعب العراقي كلّه بمكوّناته، متحدياً قدسية شهر رمضان المبارك وكما عبّر شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري حين قال موجهاً كلامه الى قائد الأنقلاب :

" ياعبد حرب وعدو السلام ياخزي من زكىّ وصلىّ وصام"

لقد شكّل الأنقلاب الصدمة الأجتماعية الكبرى الأولى للشعب، التي لم يكن عبثاً ان دعاها العديد من الباحثين، انها كانت العقوبة الموجّهة الى الشعب العراقي، على قيامه بثورة 14 تموز 1958 ومحاولته البدء بأخذ قضيّته بيده في ظلّ ظروف ذلك الزمان . وانه ـ أي الأنقلاب ـ كان مخططاً من دوائر عليا لتطبيق تلك العقوبة، بعد محاولات اسقاط الثورة والحد من توسّع تأثيرها فى المنطقة ومنذ البداية، مستغلة ما ساد المنطقة من طموحات للزعامة على عموم العالم العربي، ومن طموح وعمل بعض العراقيين للأستيلاء على السلطة وتحقيق زعامتهم الأنانية هم (2) .

لقد صعقت شراسة الأنقلاب ودمويّته اضافة الى البالغين، الأطفال والأجيال الجديدة، التي فتحت ذهنها واعينها لأول مرة على سهولة القتل في الشوارع نهاراً جهاراً، وعلى مئات من مراهقين كانوا يحملون غداّرات بورسعيد، يلبسون ملابس كاكية مفتوحة الصدر مصففين شعورهم على طريقة جيمس دين والفس برسلي، كانوا يشتمون ويهينون ويضربون ويسوقون ويصفّون نحو الجدران شخصيات البلد ووجهائه من محامين واطباء ومهندسين وفنانين وادباء وصحفيين وسياسيين وعسكريين وطنيين من ضباط ومراتب، وطلاب وعمال ورجال دين، نساءً ورجالاً واطفالاً وشيوخاً، الذين جاوز عددهم عشرات الآلاف في العاصمة بغداد لوحدها.

ولم تتسع السجون للأعداد الهائلة من الموقوفين، فحوّلوا عشرات الأبنية والملاعب والمؤسسات الى سجون جماعية لسجنهم وتعذيبهم وتوقيفهم؛ من قصر النهاية الى توسيع سجن رقم واحد في معسكر الرشيد ومقر سرية الخيالة في الكسرة واقسام من البلاط الملكي القديم وملاعب الشرطة خلف السدة وملعب بني سعد، والنوادي الرياضية (كالأولمبي في الأعظمية، نادي قريش في الكاظمية .  . وغيرها)، ملعب المنصور الرياضي، ملعب الكشافة، نادي سباق الخيل في المنصور .  .  اضافة الى المئات من مقرات الحرس القومي والمواقع والثكنات العسكرية، الأمر الذي اثار وحدات الجيش عليهم بعدئذ.

لقد عاشت بغداد طيلة عهد البعث الأول حتى سقوطه، وكأنها بلدة محتلة من عدو غاصب .  .  .  الدبابات والمدرعات ـ التي لم يشاهدها الناس حقيقة قبلئذ الاّ في الأفلام ـ في مفارق الشوارع، سيطرات التفتيش (تفتيش الأشخاص والأمتعة والسيارات ذاتها بعد انزال ركابها) وتدقيق الهويات، اضافة الى مفارز التفتيش المفاجئ التي غزت المناطق التي كانت قد قاومت والأخرى التي لم ترحّب علناً بالأنقلاب، وشكّلت اكثر من ثلثي العاصمة. ولم تنم العاصمة عهدذاك الاّ نادراً طيلة ذلك العهد الأسود بسبب اطلاق الرصاص المتنوع، وبسبب كثافة هدير الدبابات المنبعث من واقع خطير غير مستقر كان يدار ويحرّك القطعات في الظلام .

و عاش غالبية العراقيين والأطفال بشكل اخص توليفة لايمحى اثرها ونتائجها بسهولة، من ضياع اخبار آباء وامهات، الى الوقوع جميعاً في قبضة كمائن الحرس القومي السئ الصيت تمهيداً لضرب واعتقال وسَوق الأب او الأم او كليهما بالركلات امام الأطفال، الى رمي البيوت بمدافع الدبابات ورشاشاتها على ساكنيها، الى مناظر الجثث والمشوهين والفواتح والفقر والبطالة. والطواف على المعتقلات بداية ومنتصف كلّ شهر نساءً واطفالاً صحبة شئ من طعام ونقود مقترضة بدنانير معدودة وامل ودعاء بالعثور ولو على خبر او اثر للغائب، كانت تنتهي في الغالب بلا أمل، وبدموع وبقع زرقاء مؤلمة من ضرب اخامص اسلحة الحرس ( لترتيب) الجموع المتحرّكة لعشرات آلاف الزائرات والأطفال، عرباً وكرداً واقليات، مسلمين ومسيحيين ومن كلّ الوان الطيف العراقي .  .  وسط ضجيج مكبرات صوت كانت تصم الأذن بحماسيات " امجاد ياعرب امجاد . . " ، " جيش العروبة يابطل .  ." وغيرها من الحماسيات ( التي ما قتلت ذبابة ! )(2)، التي كانت تطغي على صوت مدفع الأفطار والآذان وعلى انين المعَذّبين والمعذّبات . 

ان حازم جواد لم يتذكّر جهود القوى الوطنية وعلى رأسها الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي ـ الجناح المعارض، والحزب الديمقراطي الكردستاني، ومحاولتها دعوة حزب البعث لتشكيل جبهة وطنية، للضغط من اجل وقاية البلاد من مخاطر الفردية الدكتاتورية والأستعداد للصفح عن الأخطاء التي اقترفها البعث بداية عهد الجمهورية، التي تجاهلها البعث واخذ ينشط في الظلام مبيحاً لنفسه عقد شتىّ الأتصالات والأتفاقات المخلّة، آنذاك، واعطاء شتى الوعود التي تنكّر لها لاحقاً، من اجل تحقيق زعامة عدد من افراده ليس الاّ (3)، الأمر الذي ـ اضافة لعوامل اخرى ـ ادى الى انفراط عقد القوى الوطنية واضعف دورها . (يتبع)

8 / شباط / 2021 ، مهند البراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع :  مذكرات طالب شبيب " عراق 8 شباط من حوار المفاهيم الى حوار الدم " .
" اوكار الهزيمة " لهاني الفكيكي . "المنحرفون"  الكتاب الأسود حول الحرس القومي، عن مطابع الحكومة العراقية في تشرين ثاني 1963 .

(2) نزار قباني، " على هامش النكسة "، 1967 .

(3) راجع :  حنا بطاطو، " كتاب العراق " ـ حول انقلاب شباط 1963 . مذكرات ريتشارد هيلمز رئيس ادارة المخابرات الأميركية الأسبق، واخيه هيلمز السفير الأميركي في طهران آنذاك.  وثائق المعلومات الأميركية التي كشف عنها مؤخراً، عملاً بقوانين حفظ الوثائق والمعلومات، حول الأنقلاب العسكري في 8 شباط . " من هو صدام التكريتي؟ " عن وثائق السفارة الأيرانية في واشنطن التي سقطت بيد الطلبة الثائرين عام 1979 ، اثر الثورة الأيرانية . مذكرات حردان التكريتي ـ الجزء الأول، فصل الكواليس .

عرض مقالات: