إن أحدث خطط العالم لبناء النظام العالمي الجديد  والتي وضعت خلف الكواليس، قُدمت على شكل كتاب للمؤلفين كلاوس شواب وتيري مالري تحت عنوان "كوفيد-19: إعادة التنضيد العظيم"(Covid-19: The Great Reset)، وقد لخصته في مقال سابق في ثمانية أحكام رئيسية، ودعونا نكمل الحديث.

إن أحد المفاهيم الرئيسية لـ "إعادة التنضيد العظيم" هو الرأسمالية الشاملة (Inclusive Capitalism )، أو في روسيا ، الرأسمالية "المنفتحة على الجميع" ، "شاملة". خلال عقود عملي، صادفت عدداً هائلاً من التعريفات للرأسمالية، لكن "الرأسمالية الشاملة" هو أحدث تعريف لها.

يبدو أم الأزمة المالية 2007-2009، أقنعت العالم أخيراً ومن وراء الكواليس أن النموذج القائم حالياً للنظام الرأسمالي العالمي قد استهلك تماماً. أعني في تعبير "العالم وراء الكواليس" أنهم أصحاب رؤوس الأموال (المساهمون الرئيسيون في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي)، الذين يسعون جاهدين ليصبحوا سادة العالم.

كلاوس شواب ليس لديه تعريفات واضحة "للرأسمالية الشاملة". ولربما يعتبر أحد ما إنها "الرأسمالية الحاضنة" التي يختفي فيها الفقراء والمعوزين: وسيتحدث البعض أن الجميع سيشاركون في النشاط الإقتصادي في مثل هذا النموذج. وسيشرع أحد الأشخاص بالجدل حول  شخص ما في الجدل حول مسؤولية الرأسمالية "الشاملة" أمام الأجيال القادمة.

مع ذلك، فإن كل ذلك هو مجرد التلاع بالألفاظ، إذا كانوا مولعين بالخداع والدعاية الرخيصة. سأذكر كمثال مؤتمر رفيع المستوى عقد في لندن في أيار عام 2014 ، والذي حضرته المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، وصاحب السمو الملكي الأمير تشارلز وليدي لين دي روتشيلد، والرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، وعمدة مدينة لندن فيونا وولف. كانت لين دي روتشيلد المبادر الرئيسي للاجتماع. وقبل ذلك بوقت قصير، كانت قد توصلت للتو إلى مبادرة الرأسمالية الشاملة، (لذلك لم يكن الأستاذ شواب هو من اخترعها). وكان خطاب كريستين لاجارد مثيراً للفضول بشكل خاص في ذلك الاجتماع.

أولاً ، أكدت أن الفكرة تخص السيدة روتشيلد: "نحن جميعاً هنا لمناقشة" الرأسمالية الحاضنة "، والتي يجب أن تكون فكرة لين!"

ثانياً ، تواصل لاجارد مع ماركس وخَلُص إلى أن "الرأسمالية الحاضنة"، من وجهة نظره، هي عبارة تنطوي على مفاهيم غير منسجمة: إن "المفهوم الرسمي  لـ"الرأسمالية" جرى تثبيته في القرن التاسع عشر. ومع بدء الثورة الصناعية أتى كارل ماركس، الذي ركز على الاستيلاء على وسائل الإنتاج وتنبأ أن الرأسمالية ، مع كل فائضها ، تحمل بذور دمارها - أي تراكم رأس المال في أيدي قلة تسعى في الغالب إلى تكديس الأرباح ، ويؤدي ذلك إلى صراعات خطيرة وأزمات دورية. ولذا فهل أن عبارة "الرأسمالية الحاضنة" مجرد سفسطة لفظية؟

بالنسبة لماركس ، فإن الرأسمالية بالطبع ليست "شاملة" بل على العكس من ذلك فإنها "حصرية". إنها تطرد الأشخاص "الفائضين" من الإنتاج الاجتماعي  وتتركهم في لجة الفقر والبؤس. كما تحرم الرأسمالية الملايين من أي شكل من أشكال الحياة الاجتماعية. وأطلق ماركس على ذلك "القانون العام للتراكم الرأسمالي": وفي سياق التطور الرأسمالي ، يحدث استقطاب اجتماعي واقتصادي في المجتمع ؛ وتقف في أحد القطبين - حفنة صغيرة من الأغنياء والأثرياء ، وفي الطرف الآخر - الجزء الساحق من المجتمع على شكل الفقراء والمتسولين.

حسناً ، لقد اتفقت كريستين لاغارد والأمير تشارلز والليدي لين دي روتشيلد جميعاً على أن ماركس كان على حق. ومع ذلك، أعلن المجتمعون إن ماركس وصف الرأسمالية التي كانت موجودة قبل 150-200 سنة. واليوم يجب على الرأسمالية أن تتحول من الحصرية إلى حاضنة وتشمل الجميع.

لقد مرت سبع سنوات منذ اجتماع لندن. هل أصبحت الرأسمالية العالمية أكثر شمولاً؟ لا! إنها تتطور وفقاً للقانون العام للتراكم الرأسمالي لماركس: حيث يصبح الغني أكثر ثراءً والفقير أكثر فقراً. في كانون الثاني عام 2020 ، وعشية الاجتماع الخمسين في دافوس، أصدرت منظمة أوكسفام غير الحكومية تقريراً عن توزيع الثروة في العالم. ووفقاً لهذا التقرير، فإن مليارديرية العالم البالغ عددهم 2153 ملياردير يمتلكون ثروة تبلغ أكثر مما يملكه 60 في المائة من سكان العالم. ولا يحتاج هذا التقرير  إلى أية تعليقات.

إذا قمنا بتحليل ما قاله شواب عن النموذج "الجديد" للرأسمالية ، فإن كل ذلك في النهاية يتلخص في اقتراح التخلي عن مبدأ المبالغة بالربح. إنهم يقولون ، يجب أن يدرك رجال الأعمال أن عصر نمو رأس المال يقترب من نهايته، ومتوسط ​​الربح في العديد من الصناعات وفي العديد من الأسواق يميل إلى الصفر. بالمناسبة، أعلن جورج سوروس نفسه مازحاً قبل عشرين عاماً: "لقد انتهت الموسيقى، لكنهم ما زالوا يرقصون". من الأفضل أن نتذكر كارل ماركس، الذي صاغ قبل قرن ونصف قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض، وقال إنه نتيجة لنمو الهيكل التقني لرأس المال (إزاحة العمالة بواسطة الآلات)، قد ينخفض ​​معدل الربح إلى الصفر.

ولذلك، قرر شواب، بعد السيدة لين دي روتشيلد، إنقاذ الرأسمالية بإعلانها "حاضنة". أولاً ، يجب أن يتوقف الربح عن كونه الهدف والمعيار الرئيسي لنجاح الأعمال. ثانياً ، يجب على الشركات جذب المستهلكين من خلال خفض الأسعار والقضاء التدريجي على الفقر والبؤس. ثالثاً ، يجب أن نتخلى عن الفكرة التقليدية بأن الشركات هي مملوكة لأصحاب الأسهم.

سأتطرق في هذا السياق إلى طاولة المستديرة لرجال الأعمال الأمريكية (BRT)، والتي تمثل العديد من أكبر الشركات الأمريكية. تشمل الهيئات الحاكمة لـ BRT جيف بيزوس من أمازون ، وتيم كوك من شركة آبل ، وماري بارا من جنرال موتورز، وشخصيات بارزة أخرى في قمة أغنى أغنياء أمريكا والعالم. لقد أعلنت BRT في العام الماضي إن مبدأ أولوية المساهمين قد عفا عليه الزمن، وأن الالتزامات يجب أن تمتد لتشمل جميع أصحاب المصلحة (موظفو الشركات والموردون والمقاولون ومستهلكو المنتجات والحكومة). وتهدف المائدة المستديرة للأعمال بذلك إلى تعزيز "اقتصاد يخدم جميع الأمريكيين" وليس حملة الأسهم فقط.

يرحب كلاوس شواب بهذه الخطوة ويضيف: "إن هدف الشركة هو إشراك جميع أصحاب الأسهم في عملية خلق قيمة تعاونية ومستدامة". وهذا يعني أن كل شركة يجب أن تصبح "حاضنة" ، ولا يجب أن يقع على عاتق الدولة مهمة إرساء قواعد رأسمالية حاضنة، بل على الشركات أن تتولى هذه المهمة. ومن ناحية أخرى ، يجب "استيعاب" الدولة تدريجياً (بما في ذلك النحل) من قبل الشركات الحاضنة ، ولكن لا تستهلك، كما هو الحال في مؤشرات الماركسية الكلاسيكية، ولكن يجب أن تتم خصخصتها من قبل أكبر الشركات.

لقد عاشت الرأسمالية في العالم لعدة قرون، حيث كان يسود مبدأ Homo homini lupus est (رجل لرجل هو ذئب) على مدى أجيال عديدة ، وترعرعت ذئاب الرأسمالية وهي تلتهم الأضعف. والآن تعلن الذئاب أنها مستعدة من الآن فصاعداً أكل الأعشاب ؟!

دعونا نقلب صفحة على هذا الهراء. فالرأسمالية الحاضنة سيئة السمعة عبارة عن ستار دخان يغطي خطط النخبة الرأسمالية العالمية في طريقها إلى مستقبل يمكن أن يسمى ما بعد الرأسمالية، وإقطاعية جديدة ، ونظام عبيد جديد. النخبة العالمية مستعدة للتخلي عن السعي وراء الربح ، لكنها لن تتخلى عن السلطة تحت أي ظرف من الظروف. لقد صُمم مخطط "إعادة التنضيد العظيم" من أجل الحفاظ على هذه السلطة وتقويتها. إذ يعتزم أصحاب الأموال تحويل رؤوس أموالهم إلى أداة للسيطرة المطلقة على العالم، ويبقى الجزء الساحق من سكان الكرة الأرضية على شكل فقراء ومعدمين.

عرض مقالات: