يصنف التصحّر في محافظة البصرة بأنه من النوع “الشديد جداً” الذي تفقد فيه الأرض قدرتها الإنتاجية وتصبح قاحلة وتنتشر فيها الرمال، ويعد تملّح التربة من أكثر نتائج التصحّر انتشاراً وخطورة.

يتذكر ابراهيم جاسم (71 سنة) أراضيه الزراعية في قضاء ابو الخصيب في محافظة البصرة التي كانت عامرة بأشجار النخيل والخضروات الموسمية، وكان يصدّر قسماً من محاصيلها إلى الكويت قبل أن يزحف التصحر نحوها وتتملح تربتها وتنخفض إنتاجيتها.

كانت مزرعته التي تبلغ مساحتها عشرة آلاف متر، تعود عليه بمورد جيد، إذ “كانت تنتج أكثر من 2000 كلغ من تمور البرحي المعروفة بجودتها وكنت أصدرها إلى الكويت، فضلاً عن تصدير كميات كبيرة من محصول الباميا سنوياً حتى عام 2006″، يقول مع تنهيدة تخفي حسرة عميقة، ويضيف: “أخذت إنتاجية المزرعة بالتراجع سنوياً ولم يعد العمل فيها بحجم تعبه فعمدت إلى تقسيمها إلى أراض سكنية وبيعها بسعر رخيص لتشييد دور سكنية عليها واتجهت للسكن في المدينة منذ عام 2008”.

خسارة جاسم لا تقتصر على فقدان أرضه التي ورثها عن والده منذ خمسين عاماً، بل خسر أيضاً الوصال بأولاده الثلاثة الذين تفرقوا في المدن العراقية بحثاً عن العمل، بعدما خسروا أرض أبيهم.

وإذا كانت خسارة العم جاسم وأبنائه اقتصرت على الأرض، فإن أحمد لم يتخيّل حين ترك قريته التي أصابها التصحّر أن العوز سيدفع به إلى ارتكاب جرم السرقة وينتهي به الأمر في سجن البصرة المركزي.

اتُّهم أحمد (33 سنة)، الذي ترعرع بين بساتين النخيل ومياه شط العرب، بالمشاركة في عملية سطو مسلح على أحد المحال التجارية في مدينة البصرة ليواجه حكماً بالسجن مدة 7 سنوات، تاركاً وراءه طفلتين من دون معيل.

يقول شقيقه حسن الذي يكبره بخمس سنوات عن سبب هجر العائلة القرية “اضطررنا لذلك. في العقدين الماضيين لم تعد النخلة منتجة اقتصادياً، وأخذت (الارض تغيّر وجهها علينا) كما نقول، فاتجهت بأسرتي الى المدينة بحثاً عن العمل والاستقرار”.

ويضيف: “كان شقيقي غاضباً ويبحث عن كسب سريع، فانجذب إلى أشخاص أغروه بالمشاركة معهم في السرقة. ما كان عليه أن يرتكب تلك الجريمة، لكنني أشعر بمدى صعوبة تدبر لقمة العيش بخاصة حين لا تملك عملاً أو وسيلة لتدبر قوتك. نحن فلاحون. هذا ما نجيده، لكننا وجدنا أنفسنا على قارعة الطريق”.

هجر كثيرون بساتينهم ومزارعهم التي كانت توفر لهم قوتهم واطمئنانهم المعيشي بعد اتساع رقعة التصحّر في محافظة البصرة جنوب العراق، وجفاف عشرات الأنهر وغياب الاهتمام الحكومي في مواجهة تداعيات المشكلة.

يصنف التصحّر في محافظة البصرة بأنه من النوع “الشديد جداً” الذي تفقد فيه الأرض قدرتها الإنتاجية وتصبح قاحلة وتنتشر فيها الرمال، ويعد تملّح التربة من أكثر نتائج التصحّر انتشاراً وخطورة.

ويعزو مدير حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية وليد الموسوي أسباب التصحّر في البصرة إلى عوامل عدة، “في مقدمها ارتفاع درجات الحرارة نتيجة الاحتباس الحراري والغازات الدفيئة المتعلقة بالعمليات الاستخراجية للنفط والعمليات غير المسيطر عليها بيئياً”.

أثّر تجريف البساتين بشكل فادح في المناطق الزراعية وتحويلها إلى مناطق سكنية، وكان للحروب السابقة خاصة حرب الخليج الاولى مع إيران (1980-1988) تأثيرها السلبي ناهيك عن سوء ادارة ملف المياه، بحسب الموسوي الذي يرى أن “ظاهرة التصحّر ألقت بظلالها على الواقع الاقتصادي في المحافظة، ذلك أن كثراً من المواطنين يعتاشون على الزراعة وغرس المزروعات وجني الثمار، كما أن أعداداً كبيرة منهم تركوا أماكن سكناهم بعدما تعذّر عليهم التكيف مع هذه الأوضاع”.

“ظاهرة التصحّر ألقت بظلالها على الواقع الاقتصادي في المحافظة، ذلك أن كثراً من المواطنين يعتاشون على الزراعة وغرس المزروعات وجني الثمار، كما أن أعداداً كبيرة منهم تركوا أماكن سكناهم بعدما تعذّر عليهم التكيف مع هذه الأوضاع”.

تأثر الواقع الاقتصادي بالتصحّر يظهر جلياً في مناطق شرق محافظة البصرة، إذ تقلصت المساحات المزروعة بشكل مستمر وتراجعت إنتاجية الدونم الزراعي الواحد من محصولي القمح والشعير إلى نحو 40 في المئة، فيما انخفضت إنتاجية التمور التي اشتهرت بها البصرة بالنسبة ذاتها تقريباً.

يقول الباحث الاقتصادي في جامعة البصرة حيدر كريم إن تملّح التربة الذي رافق ظاهرة التصحر قضى على 95 في المئة من مزارع الحناء، إذ تعرضت معظم أشجارها للهلاك وتوقف إنتاج مسحوق الحناء محلياً، بينما تعرضت تربة الهضبة الغربية في قضاء الزبير المشهور بزراعة محصول الطماطم والخضار لـ”تعرية ريحية شديدة رافقها انتشار الكثبان الرملية”.

ساهمت ندرة الموارد الأولية، بحسب كريم، في اختفاء بعض الحرف المحلية وتقلص التجارة الداخلية القائمة عليها “ما أدى إلى القضاء على القدرات الإنتاجية للاقتصاد المحلي ودفعت هذه الأوضاع الكثير من المزارعين والرعاة إلى النزوح من مناطق سكنهم والاستقرار في المدينة بحثاً عن حياة جديدة، فارتفع عدد العاطلين من العمل في محافظة البصرة”. ويقدر عدد العاطلين من العمل في البصرة بأكثر من مليون و350 ألف مواطن، بحسب بيانات الحكومة المحلية، بينما يتجاوز عدد سكان المحافظة 4 ملايين نسمة. وبسبب هذا الارتفاع، أعلن مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان أن “نسبة الفقراء ومن هم دون خط الفقر في البصرة ناهزت الـ40 في المئة”.

بالعودة إلى حكاية أحمد، تظهر الإحصاءات ارتفاعاً في معدلات الجرائم المرتكبة بدوافع اقتصادية واجتماعية، ويرى الخبير الأمني أنور الأسدي أن التصحّر من العوامل الرئيسة التي تعيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية ويزيد المشكلات الاقتصادية، التي تؤدي إلى تفاقم تفلّت الوضع الأمني، فمشكلات البيئة ترتبط بشكل وثيق بالاقتصاد وبالاستقرار الأمني تباعاً. فـ”نسبة الجريمة في البصرة ارتفعت خلال السنوات 2005-2010 بشكل يفوق مثيلاتها في السنوات السابقة التي أعقبت سقوط النظام السابق عام 2003، فيما تضاعف عدد الجرائم خلال السنوات الأخيرة واخذت تتحول من جرائم سرقة تقليدية إلى سطو مسلح وتجارة مخدرات وإتجار بالبشر”.

ما يقوله الأسدي يتوافق مع تصريحات شرطة البصرة التي تصدر بيانات دورية تعلن فيها القبض بشكل يومي على مطلوبين للقضاء بجرائم مدنية، وهو ما يؤشر إلى ارتفاع حجم الجرائم التي تشهدها البصرة والتي كانت آخرها عملية سطو مسلح على منزل أحد رجال الأعمال، تمكن خلالها المسلحون من سرقة نحو 4 ملايين دولار.

ومن شأن هذا الانفلات الأمني أن يمتد تأثيره إلى دور البصرة الدولي كمركز لإنتاج النفط العراقي وتصديره إلى دول العالم، فينعكس الاضطراب الأمني سلباً على قدرتها الإنتاجية من النفط.

وإزاء تفاقم ظاهرة التصحّر وتداعياتها الاقتصادية والأمنية، يواصل الناشط البيئي قاسم المشاط، برفقة عدد من زملائه، مشوارهم الذي بدأوه منذ سنوات في التصدي لهذه الظاهرة من خلال زراعة النباتات البرية المقاومة للبيئة الجافة، كأشجار الجثجاث والارطى والشفلح العرفج والكثب والسنامكي البري، بهدف وقف زحف التصحّر. وهي أشجار جديدة “تلائم بيئة البصرة ليتمكن الفلاحون من اعتمادها في نشاطهم الزراعي”، ومن هذه الأشجار، يقول المشاط، شجرة البابايا المثمرة التي نجحت تجربة زراعتها وبدأ المزارعون اعتمادها وتسويق محاصيلهم منها في الأسواق المحلية كخطوة أولى.

وعلى رغم انطلاق مشاريع تطوعية لزراعة هذا النوع من الأشجار في البصرة، لكنها بقيت مبادرات محدودة التأثير في مواجهة مشكلة التصحّر وتملّح التربة والتي تنذر باجتياح نحو 92 في المئة من مجمل الأراضي، مع انخفاض مقياس الغطاء النباتي في الأراضي الزراعية بنسبة 8 في المئة خلال عام 2020، كما جاء في برنامج العمل الوطني لمكافحة التصحّر في العراق، الذي أطلق عام 2008 عشرية لمكافحة التصحّر، انتهت عام 2018 من دون نتائج ملموسة.

ويقول نقيب المهندسين الزراعيين السابق في البصرة علاء البدران إن توصيات البرنامج لم تترجم على أرض الواقع موضحاً “أن مشكلة التصحّر تتطلب معالجات حقيقية تقوم على إنشاء حزام أخضر وتنفيذ حملات تشجير”.

وتنظر حكومة البصرة المحلية بـ”اهتمام كبير” إلى ظاهرة التصحّر التي تغزو أراضيها، كما يؤكد معاون محافظ البصرة معين الحسن. وتعوّل حكومة البصرة بشكل كبير على المؤسسات المختصة ومنظمات المجتمع في تقديم مقترحاتها الخاصة لمعالجة مشكلة التصحّر، يقول الحسن و”سوف ندعم مقترحاتهم ونعمل على تنفيذها ضمن موازنة العام المقبل 2021 فالبصرة بحاجة إلى مشروع وطني كبير لمواجهة مشكلة التصحّر”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع “دراج” 1 كانون الأول 2020

صحافي عراقي

عرض مقالات: