ليس من الجديد القول ان الاقتصاد العراقي في وضع سيء وهناك العديد من المعطيات التي تشير ان الوضع  قد يسير نحو ألأسوء وخاصة في المدى القصير-المتوسط. ويكاد ان يكون هناك إجماع بين المعنيين حول هذه الرؤية المؤسفة رغم التباين في منهجية التحليل و الأدلة والمظاهر والأسباب الجذرية والطارئة لما وصل اليه الوضع الاقتصادي . باختصار شديد للغاية، لقد ساهمت مجموعة معقدة من العوامل والظروف والممارسات المؤثرة الفاعلة في جعل العراق “دولة هشة”؛ ومن اهمها عدم الاستقرار السياسي والانقسامات بكافة انواعها؛ ضعف الوضع الامني؛ البنية الاقتصادية غير المتوازنة واحادية الاعتماد التي عمقت الدولة الريعية وعملت خلال العقدين الماضيين الى انتشار “السلوك الريعي” بين مختلف شرائح المجتمع وخاصة القيادات السياسية والحزبية والعشائرية والبيروقراطية و..و.. ؛ عدم كفاءة الإدارة في اغلب مستويات المسؤولية واتخاذ القرار وخاصة في مختلف مجالات التنمية والسياسات الضرورية المتعلقة بها؛ “حوكمة اللصوصية- الكليبتوقراطية” مقرونةً بالفساد المفرط المشرعن والمومئسس؛ التأثيرات والتدخلات الخارجية وأخطرها احتلال 2003 وما تبعه من تواجد للقوات العسكرية، وغيرها من العوامل الاخرى.

البيانات والمعلومات ومختلف التحليلات حول هذه العوامل والظروف كثيرة للغاية، وبالتاكيد ليس هذا هو المجال للخوض فيها. ولكن، لا يكاد يمر أي يوم دون إضافة فقرة جديدة إلى القائمة الطويلة من الحالات والأمثلة التي توردها وسائل الإعلام والهيئات الرسمية والخبراء والسلطات القانونية التي تتعلق ببعض منها؛ النتيجة المؤسفة والواضحة لكل ذلك هو التدهور الشديد في الاقتصاد العراق.

لإعداد هذه المساهمة قمت بتجميع وعرض احدث البيانات التي تتعلق بالمؤشرات الرئيسية للاقتصاد الكلي التي وردت في تقرير حديث لصندوق النقد الدولي صدر هذا الشهر وكما ورد في الجدول أدناه. يقدم الجدول تطور 26 مؤشرًا للاقتصاد الكلي على مدى العقدين الماضيين باستخدام ثلاث مجموعات من البيانات: الأولى، تتضمن المتوسط او المعدل للفترة من 2000 إلى 2016 ؛ الثانية، تشمل البيانات السنوية لكل من الاعوام الثلاثة الماضية 2017: 2019 ، والثالثة تمثل توقعات الصندوق للسنوات 2020 و 2021.

ينصب التركيز في هذه المساهمة الموجزة على آفاق الاقتصاد العراقي في هذا العام والعام المقبل مقارنة بالسنوات الثلاث الماضية اعتمادا على البيانات اعلاه وعلى البيانات الرسمية العراقية المتاحة قدر المستطاع، دون  الاهتمام ببيانات المجموعة الاولى وذلك لأنها تتعلق  بفترة طويلة نسبيا وظروفها غير اعتيادية مما يقلل من فائدتها للتحليل المقارن لاعتبارات عديدة.

 الناتج المحلي الاجمالي

سيعاني الناتج المحلي الإجمالي (الحقيقي والاسمي) من انكماش شديد خلال عامي 2020 و 2021،  فسوف ينخفض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة (12.1%) في عام 2020 ثم يتحسن بنسبة (2.5 %) في عام 2021. في كلا العامين، ستكون معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي أقل بكثير مما كانت عليه في عام 2019.

كذلك من المتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الاسمي في عام 2020 الى أدنى مستوى، وهو 178.1 مليار دولار ، مقارنة بالاتجاه التصاعدي الذي ساد خلال السنوات الثلاث السابقة.

عندما ينخفض الناتج المحلي الإجمالي بينما ينمو عدد السكان، تكون النتيجة تدهور حصة الفرد من هذا الناتج بمعدل أعلى من تدهور الناتج المحلي الإجمالي.

تشير المعلومات الى زيادة سكان العراق بأكثر من مليون نسمة سنويًا، وهذا يقود الى تخفيض كبير في حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بنسبة 24.6٪ و 19٪ في عامي 2020 و 2021 على التوالي مقارنة بعام 2019. وبناءً على هذه البيانات ، تقود النتائج الأولية إلى أن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنقطة مئوية واحدة يؤدي الى انخفاض بواقع 1.09 نقطة مئوية في حصة/دخل الفرد في العام الأول و 1.29 نقطة مئوية في العام الثاني.

ولكن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ليس سوى مقياس كمي لا يقول شيئًا على الإطلاق عن التوزيع العادل للثروة الوطنية او الدخل الفعلي أو التبعات الاجتماعية التي تبرز وبوضوح  أثناء فترات الانكماش الاقتصادي او الازمات المالية.

إن عدم توفر بيانات كافية ودقيقة ومحدثة يمكن التحقق من مصداقيتها عن توزيع الدخل في العراق يجعل من  البيانات الرسمية عن الفقر بديلا يسترشد به ولابد من أخذه في الاعتبار عند مناقشة التداعيات الاجتماعية في اوقات التدهور الاقتصادي.

أظهر مسح الفقر لعام 2018 الذي أجرته وزارة التخطيط أن نسبة الفقر على المستوى الوطني بلغت 22.5٪ في نهاية عام 2018، مع وجود تباينات كبيرة جدًا بين المحافظات تتراوح بين 52٪ في محافظة المثنى و 4.5٪ في محافظة السليمانية. واصبح الوضع اكثر سوءً بحلول النصف الأول من عام 2019 حيث ارتفعت نسبة الفقر على المستوى الوطني إلى 34٪ وفقًا لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية: أي اصبح ثلث سكان العراق يعيشون تحت خط الفقر. لذلك يمكن، من الناحية التحليلية، القول او الافتراض باحتمالية تزايد معدلات الفقر والتباين في تلك المعدلات خلال عامي 2020 و 2021.

 إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي

كان إنتاج النفط الخام وسيظل المحرك الرئيسي للاقتصاد العراقي حيث انه لم يتم فعل أي شيء لمعالجة هذا الخلل الهيكلي وبالتالي هناك احتمالية عالية جدا لاستمرار هذه الهيكلية غير المتوازنة. توقع صندوق النقد الدولي انخفاضًا في إنتاج النفط الخام في عام 2020 إلى 3.98 مليون برميل يوميا (مبي) وإلى 4.02 (مبي) في عام 2021 مقارنة بمعدل 4.57 (مبي) في عام 2019. ومن الواضح أن الانخفاض المتوقع في إنتاج النفط لعام 2020 يُعزى إلى الآثار المشتركة  والمتداخلة لكل من “اتفاقية أوبك +” و جائحة COVID19.

وفي هذا المجال اجد من الضروري ابداء بعض الملاحظات بشان توقعات الصندوق لعام 2020. كانت توقعات الصندوق أقل من الإنتاج الفعلي، البالغ 4.124 (مبي)، للأشهر الثمانية الأولى من هذا العام (علما انه تم نشر تقرير الصندوق في النصف الثاني من شهر اكتوبر).  أما بالنسبة للأشهر الأربعة المتبقية من العام، فيجب أن نأخذ في الاعتبار انعكاسات التوجيهات الأخيرة من قبل وزارة النفط القاضية بزيادة إنتاج النفط بمقدار 0.250 (مبي) في أكتوبر. فاذا تحققت هذه الزيادة واستمرت حتى نهاية العام، كما صرحت بذلك شركة سومو حديثا، فقد يكون إنتاج النفط الفعلي لعام 2020 أعلى بكثير من توقعات صندوق النقد الدولي. لا يشير تقرير صندوق النقد الدولي إلى إنتاج سوائل الغاز الطبيعيNGL  ويبدو أنه لم يتم تضمينه ضمن إنتاج النفط الخام، ربما لأنه منخفض نسبيًا. تُظهر البيانات التي تم جمعها من قاعدة بيانات JODI ان إنتاج سوائل الغاز الطبيعي خلال الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام حوالي 0.067 (مبي)، وهو ما يمثل 1.6 ٪ من الإنتاج الفعلي للنفط الخام في نفس الفترة.

اما ما يتعلق بعام 2021 فيوجد قدر كبير ومتزايد من الضبابية وعدم اليقين بشأن صحة الاقتصاد العالمي، وبالتالي بشأن موازنة الطلب على وعرض النفط في المستقبل القريب على المستوى الدولي، أي العام المقبل. ويعود السبب الرئيسي لهذه الضبابية وعدم اليقين الى الموجة الجديدة والزيادات الكبيرة في حالات الإصابة بفيروس COVID19، لا سيما في نصف الكرة الغربي، مما ادى الى اعتماد إجراءات اكثر صرامة في العزل والإغلاق والتباعد الاجتماعي.

يغفل تقرير صندوق النقد الدولي موضوع الغاز الطبيعي؛ فالتقرير لم يذكر شيئا عن هذا المصدر المهم لتوليد الطاقة وللمنتجات البتروكيماوية!!

من الحقائق المعروفة أن العراق ينتج كميات كبيرة من الغاز المصاحب وأن معظمه يحرق مباشرة في الفضاء، بكل ما يترتب على هذه الممارسة الخاطئة من هدر مادي ومالي وتاثيرات سلبية للغاية على البيئة والصحة العامة.

تشير البيانات التي تم جمعها من التقارير الشهرية لوزارة النفط إلى أنه حتى الآن في عام 2020 انتج العراق 2639 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا – مقمق من الغاز المصاحب يوميا حيث حرق 52٪ منه. ومن البديهي ان يكون لكل من الغاز المصاحب المحروق والمستخدم انعكاسات مهمة وعديدة ومؤثرة، وبالتالي، فإن تجاهل هذا الموضوع المهم في تقرير صندوق النقد الدولي امر مؤسف.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* استشارات التنمية والبحوث – النرويج

عرض مقالات: