مقدمة

جرت العادة أن تقسّم الدول الى نوعين: النوع الأول هو دول السلطة. وهي الدول التي تفتقر الى المؤسسات الاقتصادية والسياسية والتشريعية والاجتماعية والتي غالبا ما تجمع بمؤسسة واحدة هي السلطة التنفيذية.

وهذا النوع من الدول كان سائدا قبل الثورة الصناعية، وما زالت بعض اشكاله تمارس في دول العالم الثالث المتخلف والدول ذات النظم الاستبدادية والفاشية.

اما النوع الثاني فهي دول المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، والتي عادة ما تكون موجودة في الدول المصنعة والمتطورة والديمقراطية.

وأسباب وجود هذين النوعين من النظم السياسية ترجع في الغالب الى عوامل موضوعية.    

ويندرج العراق ضمن النوع الأول، وللأسباب التالية:

1- ظروف تأسيس الدولة العراقية وبنيتها:

تأسست سنة 1921 بتخطيط بريطاني وبملك غير عراقي وبمجتمع هو عبارة عن كتل بشرية متناثرة تتحكم بها قيم وتقاليد وافكار القرون الوسطى (الثيوقراطية والعشائرية) وتعيش خلف سياج الانعزال التام عن مجريات الحضارة العالمية وتدار بإدارة بريطانية شبه مباشرة وبكادر اغلبه غير عراقي وتعتمد على قاعدة اجتماعية اقطاعية وكمبرادورية صنعها المستعمر.

أي ان الدولة العراقية كانت عبارة عن مجاميع بشرية بدوية في ثوب دولة حديثة. وهذا يعني ان شكلها لا يتناسب مع مضمونها. ولعل ذلك هو أحد الاسباب الرئيسية الذي أنتج صفتها المذكورة اعلاه.     بالإضافة الى دمجها مع مشاريع لدولة المستعمرة لها.

والنتيجة ظهور دولة هجينة متناقضة مع نفسها ومع الواقع العالمي. ولعل هذا هو أحد اسباب عدم تطورها ولحاقها بالدول الحديثة.

الواقع الاقتصادي للدولة العراقية:      

ظل اقتصاد البلد معتمدا على عنصرين اساسيين فقط في اغلب فترات عمره المديد:

أ- اقتصاد الكفاف الحرفي الزراعي ذو الطبيعة الاقطاعية او شبه الاقطاعية خلال اغلب فترات القرن الماضي.

ب- اقتصاد الريع النفطي، والذي هو السبب الاساسي في تخلف القوى المنتجة لقرن كامل تقريبا. ذلك ان ايرادات النفط ظلت المصدر الاساسي للاقتصاد العراقي.

 فالنفط الخام يستخرج من باطن الارض بأيادي اجنبية وتكنولوجيا اجنبية وخبرة اجنبية. وليس للدولة من وظيفة سوى استلام حصتها من اثمانه وتحويلها الى رواتب للموظفين او شراء سلع وخدمات من الدول الاجنبية.

ولذلك لم تظهر صناعات نفط تكميلية مثل صناعات التكرير ولا خبرة صناعية وطنية ولا طبقة عاملة عراقية ولا ثقافة اجتماعية صناعية.

ويكاد يتفق علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة حول خطورة اقتصاد الريع الذي لا يبني دولة حديثة لوحده. بل هو يشكل علة العلل في عرقلة تطور الدولة والمجتمع في الدول غير المصنعة لأنه يساهم في فرز عدة امراض خطيرة. فهو الذي يفرز الفساد المالي والترهل الاداري والانتهازية واللاوطنية والعنصرية والعشائرية والمناطقية والتهميش الاجتماعي واللاابالية وضعف الشعور بالمسؤولية وضعف الابتكار والاجتهاد. وكذلك فهو الذي يعزز الميول الدكتاتورية وظاهرة الانقلابات العسكرية والتبعية   للاحتكارات الامبريالية والقوى الاجنبية بشكل عام.

وبالتالي فهو يؤدي الى فشل الدولة في خلق سوق وطني متطور للعمل والتبادل. 

وإذا اضفنا الى ذلك وجود النظام شبه الاقطاعي وطرق الانتاج المتخلفة في الزراعة وشيوع العشائرية التي أشرنا لها، ستكون الصورة أكثر قتامة.

ولذلك لا نستغرب من هجرة الفلاحين الى المدن وترك الزراعة مما يؤدي الى فتح الباب لاستيراد     السلع والمنتجات الغذائية وغيرها من الدول الاخرى، الى حد استيراد ماء الشرب من الدول المجاورة في العقود الاخيرة.  

وبفعل السياسات الرجعية والعميلة والمراهقة لم يتطور القطاع الصناعي بالشكل المطلوب، بل اصيب بنكسات مميتة وخاصة بعد انقلاب 8 شباط 1963 ولغاية هذا اليوم. أي منذ ان قام انقلابيو 18 تشرين 1964 بتأميم ما كان موجودا من الشركات الصناعية الناشئة.

 ثم هناك ما افرزه النظام الدكتاتوري والعسكرة المفتعلة التي قام بها نظام البعث، حيث حولت اغلب الصناعات المدنية والسلمية الى الانتاج الحربي. فأُفرغت المصانع والمعامل من الايدي العاملة العراقية بعدما قذف بهم الى سوح الحرب والثكنات العسكرية وإحلال الايدي العاملة الاجنبية محلهم. ثم ما حل بما تبقى من المصانع والمعامل من تدمير وحرق وسرقة وتخريب متعمد لبناها التحتية بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003.

ثم فتح السوق العراقية للاستيراد بدون اية ضوابط.

كل هذا أنهى أهم محور لقيام دولة صناعية ذات مؤسسات حديثة ولديها القدرة على تطوير نفسها واللحاق بالدول المتقدمة.

الواقع السياسي:

اتصف الوضع السياسي في العراق منذ تأسيس الدولة عام 1921 بالتبعية للأجنبي والمستعمر والمحتل، وكذلك بتسلط القوى الرجعية والمتخلفة على أهم مفاصل الدولة.

ولا داعي للتذكير بسياسات العهد الملكي الخانعة للنفوذ البريطاني والغربي بشكل كامل والمعادية للحركة الوطنية العراقية وإدخالها العراق في مصيدة الاحلاف العسكرية وإعدادها للتآمر على الدول الوطنية (حلف بغداد مثلا، والحلف العراقي – الاردني، ومشروع ايزنهاور) كأمثلة صارخة على ما نذكر. 

ثم اسقاط ثورة 14 تموز التحررية بواسطة حلف رجعي امبريالي مكون من شركات النفط والاقطاع العراقي والتيار الديني بشقيه السني والشيعي والتدخل المصري وبعض قوى جبهة الاتحاد الوطني التي كان لها الدور البارز في انجاز مشروع الثورة.

فقد انحاز حزب البعث العربي الاشتراكي الى المعسكر الرجعي وتزعم عملية اسقاط الثورة.

ثم جاء الدور المكمل والحاسم لانقلاب 1968 البعثي حيث حوّل البلاد الى معسكر حرب وتوتر واستبداد وقمع لكل ما هو ديمقراطي. وبذلك أغرق البلاد في اتون حروب ومجازر بشرية لا حصرلها.   

وكانت النتيجة اعطاء المبرر للقوى الامبريالية لاحتلال البلد. 

ثم ان المحتل سلّم الحكم الى الاسلام السياسي الطائفي المتخلف الذي اوصل البلاد الى ما يطلق عليه بالدولة الفاشلة حسب ما وصفته المنظمات الدولية المتخصصة و (دولة اللا دولة) حسب تعبير عادل عبد المهدي والكاظمي.

كما يلاحظ كثرة الانقلابات العسكرية وتغول العسكر بشكل ملفت للنظر على الحياة السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية، حيث وقعت أكثر من عشرة انقلابات او محاولات لانقلابات عسكرية طيلة المئة سنة الماضية. ناهيك عن كثرة الاحكام العرفية والاساليب الدكتاتورية والقمعية التي صارت ظاهرة معروفة لدى المجتمع العراقي.
كل هذه الظواهر التي وصفناها لا تعطي الباحث في الشأن السياسي والاجتماعي قناعة بأن هكذا نظام سيبني دولة مؤسسات ديمقراطية رصينة او مؤسسات انتاجية او تشريعية او بحثية لها القدرة على الصمود والبقاء والتطور.

الوضع الاجتماعي:

كان الجهل والطائفية والأمية والامراض المتوطنة والسارية (البلهارزيا - التراخوما - السل الرئوي - الطاعون - الجرب - الكوليرا - السرطان وغيرها) سمة الوضع الاجتماعي والصحي طيلة المئة سنة الماضية تقريبا.

كذلك تشير المنظمات المتخصصة الى ان نسبة الأمية في الفترة الملكية كانت تصل الى أكثر من 90%. وفي فترة حكم الاسلام السياسي الحالي تجاوزت 70% عند النساء في بعض المحافظات و50% عند الذكور. كما رمت السلطة الحالية شبيبة البلاد الى شارع البطالة والهجرة والتهميش اللامعقول.

واُستبدل الكادر المتعلم والمتخصص بمجاميع من الأميين وأشباه الأميين من منطلق أسلمة الدولة وتثبيت طائفيتها.

 وحلت الخرافة والاسطورة والشعوذة محل البحث العلمي والفكر الحديث.

 وتراجعت ثقافة المواطنة الى ابعد الحدود لصالح الثقافة العشائرية والاثنية والطائفية.

 وتراجعت ثقافة السلم والوئام الاجتماعي الى ثقافة التناحر والعداوات بين الناس.    

 وحلت لغة السلاح محل الحوار والتفاهم في حل المشاكل الاجتماعية.

 وفقد القانون هيبته تماما.

كما اُغرقت دوائر الدولة بكم هائل من "الموظفين" المرتزقة بدون ان يكون لهم اية ضرورة. حيث يقدر عدد الموظفين في دوائر الدولة الآن بأكثر من خمسة ملايين مدني وعسكري، كما بينت وزارة التخطيط في أكثر من مرة في تقاريره. حيث قدرت ان معدل عمل الموظف لا يزيد عن 19 دقيقة يوميا.

 ثم اردفتها بالميليشيات المسلحة وبالأيدي العاملة الاجنبية.

وهذا الواقع الاجتماعي الموصوف أعلاه لا يسمح ابدا بقيام دولة مواطنة او دولة مؤسسات مدنية البتة.

الواقع التشريعي:

منذ تأسيس الدولة العراقية كان التشريع يعاني من ضعف واضح، وهو في اغلب الاوقات تابعا ذليلا للسلطة التنفيذية.

 فبدلا من ان يكون البرلمان رقيبا على السلطة التنفيذية فان السلطة التنفيذية ظلت هي التي تراقب البرلمان. فتحله او تعطّله متى ما شعرت انه يراقبها.

 وهذه الحالة لا تنطبق على البرلمان بل حتى على النقابات والعمالية والمهنية والمؤسسات الثقافية والصحفية ايضا.

 ففي الفترة الملكية كان البرلمان يُعيّن تعيينا من قبل السلطة التنفيذية ويجري تمريره بانتخابات شكلية.

وكثيرا ما جرى حلّه بسبب صعود بعض الوجوه الوطنية الى جسمه.

وفي الفترات اللاحقة والممتدة منذ 1958 ولغاية احتلال العراق عام 2003 لم تجر اية انتخابات برلمانية حقيقية ولم يكن هناك دستور دائم.

فقد اعتبر النظام البعثي ان "مجلس قيادة الثورة" هو البرلمان الذي له حق التشريع. وما جرى من انتخابات لما يسمى بـ” المجلس الوطني" فانه لا يعدو كونه "ديكورا هزيلا" امام العالم الخارجي.

اما برلمان ما بعد الاحتلال فكان عبارة عن خلطة طائفية واثنية وعشارية (ليس لها طعم ولا رائحة). اي انه أتى بحفنة من المرتزقة والأميين والذئاب الجائعة لامتصاص الدم العراقي والثروة العراقية.

ولعل فقدان وسرقة أكثر من تريليون دولار دخلت الخزينة منذ 2004، والتي لم يظهر لها اي إثر في المجتمع العراقي وحياة الناس، خير دليل على ما ذكرنا.

كما يعتبر الدستور المعمول به حاليا أحد اهم العوائق المعرقلة لظهور دولة مؤسسات ديمقراطية وحياة مدنية سليمة.

 بل بالعكس فقد ساهم في تمزيق المجتمع العراقي وحوّله الى قطع طائفية واثنية وعشائرية بواسطة    مصطلحات: المكونات - والاسلام دين الدولة – ولا يجوز تشريع قانون يتعارض مع ثوابت الاسلام -ووجوب وجود فقهاء الشريعة في الهيئة القضائية.. وغيرها.

ولذلك أنتج هذا الدستور كل هذه التناقضات والفوضى الاجتماعية وفقدان هيبة الدولة، واعطى الضوء الأخضر لتبرير اغلب الجرائم التي ترتكب يوميا بحق الشعب العراقي.

اما القضاء فهو الآخر يعاني من عدم الكفاءة ومن التسييس والتناقض والمزاجية في اصدار الاحكام. مع وجود كثرة من القوانين المتناقضة مع الدستور. بالإضافة الى وجود كم غير قليل من القوانين التي شرّعت في فترات زمنية مضى زمانها ولكنها لازالت تُفعّل عند الحاجة السياسية للسلطة، مثل: القوانين الخاصة بالأراضي الاميرية واملاك الدولة، وقانون العلاقات العشائرية، وقانون غسل العار الذي يتسامح في قتل المرأة من قبل زوجها او اخوتها إذا أدينت بتهمة الفجور. بالإضافة الى القوانين التي لا تساوي بين المرأة والرجل في الميراث والعصمة.

وكذلك قوانين صدام التي تعاقب بعقوبة الاعدام كل من يعارض او يطرح رأيا مغايرا لإرادة "القائد الضرورة".

 ان وجود هكذا وضع تشريعي سيعرقل بالتأكيد أي تطور لدولة مؤسسات مفترضة تسعى لتطوير العملية السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية.

  الخلاصة:

  يتضح مما ذكرنا

اولاً: ان العراق دولة هجينة وفقيرة جدا الى نظام دولة المؤسسات الديمقراطية الحديثة. بل هي بالأصح دولة سلطة وتقترب من دول القرون الوسطى رغم وجود كم غير قليل المشاريع والخطط الاصلاحية والقوانين الحديثة، لكنها بقيت مهمشة ووضعت "فوق الرفوف العالية" في غالبيتها.

 فقد انهارت الدولة العراقية بسقوط النظام الملكي. كما انهارت الدولة بعد انقلاب شباط 1963 واستشهد قائد ثورة 14 تموز عبد الكريم قاسم.

كما انهارت الدولة بالكامل بمجرد سقوط صدام حسين وهربه.

ثانيا: كان للخدعة الامبريالية الكبرى والتي تتمثل في طريقة بناء الدولة العراقية الجديدة على نظام الديمقراطية البرلمانية - والذي اثبتت التجربة العملية انه لا يلائم ظروف العراق في الوقت الحاضر، حيث البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية والتشريعية المتردية للغاية مما افضى الى تدهور الدولة العراقية وفقدان هيبتها داخليا وعالميا.

فالمعروف ان النظام البرلماني هو نظام حكم متطور أكثر من النظام الرئاسي ولكنه يحتاج الى بيئة ومقدمات ضرورية لتبنيه.
وهذه المقدمات غير متوفرة في العراق، لا سابقا ولا لاحقا.

 ولذا لا بد من وجود نظام رئاسي مقيد يكون وسيطا انتقاليا للوصول الى النظام البرلماني. وتكون مهامه محصورة بنقطتين فقط:

الأولى، ضبط الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والاداري الداخلي للدولة. 

والثانية، تثبيت مبدأ السيادة الوطنية واستقلالية القرار السياسي. 

المراجع:

عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي - عزيز سباهي.

الاقتصاد العراقي - عباس النصراوي

الاقتصاد العراقي - محمد علي زيني

 عبد الكريم قاسم في يومه الاخير - عقيل الناصري

 الحروب الكيمياوية - الدكتور محمد ميشال الغريب

 فهد والحركة الوطنية - كاظم حبيب وزهدي الداودي

ثورة 14 تموز - سعاد خيري

عرض مقالات: