عنون المفكر العراقي الماركسي الراحل هادي العلوي إحدى مقالاته باسم (لينين فيلسوفاً) نشرتها مجلة (الحرية) التي كانت تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين (شراكة) مع منظمة العمل الشيوعي في لبنان. وقد أكد فيها أن لينين كان فيلسوفاً، على الأقل في كتابه المهم الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان (المادية والمذهب النقدي التجريبي). يقول هادي العلوي في بداية مقاله: يفترض تاريخ الفلسفة شروطاً للتفلسف، يتوقف عليها ترسيم المرء في قائمة الفلاسفة، وعلى رأسها توفر المنهج، فالباحث في الفلسفة على طريقة الهواة الذين تعنيهم الفكرة الفلسفية أو يقفون عند مجرد التوفيق بين الآراء لا يرقى إلى مرتبة الفيلسوف. ومثل هذا الباحث قد يصل مع توفر الاحتراف إلى معلّم فلسفة، فإذا أتقن المنهج واختار مذهباً معيناً ينشط فيه ارتقى إلى رتبة الشارح، وللشارح نفسه درجات تبدأ من معلّم فلسفة وتنتهي بالفيلسوف.
وحين نمعن الفكر في كلمة فيلسوف ودلالاتها في الثقافة العربية نجدها مبهمة غامضة الحدود، يمكن إيجازها بمن درس العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درساً متقناً، وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، ونطلق عليه اسم فيلسوف أو حكيم. وغالباً ما يكون المنهج المتسق والقدرة على الإبداع شرطين لا غنى عنهما لتفرقة الفيلسوف عن غيره.
لا خلاف أن كارل ماركس كان فيلسوفاً حتى بمقاييس الغرب الصارمة، ولكنه جنح نحو تضمين الفلسفة بعداً إنسانياً ظاهراً، وحوّل مهمتها من تفسير العالم إلى تغييره. وأنا هنا أحاول التشبّه بمنهج هادي العلوي في البحث، وعلى كل حال إن التشبه بالكرام حميد. وهذه فرصة لتصحيح غلطة بسيطة من هادي العلوي آمل أن تصحّحها دار المدى للثقافة والنشر حين تقدم على طبعة جديدة من كتاب (مدارات صوفية) وهو دراسة قيمة في تراث الثورات المشاعية في الشرق، فقد جاء في باب (الأبدال) الصفحة 146 من الطبعة الأولى عام 1997:
(
كارل ماركس من أسرة يهودية تنصّرت. عاش في ألمانيا ما بين 1813-1883 ومات عن سبعين عام).
والصحيح أن كارل ماركس ولد في 5 أيار 1818 ومات في 14 آذار 1883 عن عمر بلغ الخمسة والستين عاماً ودفن في مقبرة هايغيت بالعاصمة البريطانية لندن.
كارل ماركس فيلسوف وعالم اقتصاد وعالم اجتماع ومؤرخ وصحفي ومناضل اجتماعي واشتراكي ثوري، وما لم يقله مؤرخوه وأتباعه عنه إنه فيلسوف حكيم. وعندما نقرأ مؤلفاته الجدلية نقرأ كاتباً نبيهاً واسع الأفق والاطلاع، لا يهمل ظاهرة مؤثرة في الحدث المدروس اقتصادية أم اجتماعية أم مادية أم نفسية أم روحية. والماركسية عند ماركس دليل عمل، طريقة، نهج، لا عقيدة، فهو يتجاوزها حين يكتب. ولعلها نادرة تاريخية أن ماركس هو الوحيد الذي كان يتجاوز نظريته حين يكتب ويفكر بتأثير عقله الجدلي الشمولي، وليس الماركسيون مثل ماركس.
كارل ماركس فيلسوف بشروط الفلسفة الأوربية الحديثة. وفلسفته فرعان: المادية الديالكتيكية وهي فلسفة الطبيعة، والمادية التاريخية وهي فلسفة التاريخ. ولا علاقة للمادية الديالكتيكية ببرنامج ماركس الشيوعي، على حد تعبير هادي العلوي، والدمج بينهما افتعال، فالشيوعية موقف اجتماعي كما قال هادي مراراً. وقد يكون المرء مادياً ديالكتيكياً ولا يكون شيوعياً. أما المادية التاريخية فهي فلسفة الإنسان. والإنسان في العموم جُبل من مزيج من العلاقات المادية والروحية ولا يستقيم أن يكون مادياً صرفاً.
يقول هادي العلوي: “لا نجد في كتابات ماركس عروضاً مفصّلة لماديته التاريخية سوى جذرها الأكبر، العامل الاقتصادي الذي يسيّر التاريخ. ولكن ماركس لم يجعل العامل الاقتصادي حاصراً لحركة التاريخ. وهذا ليس في فلسفة ماركس بل في منهجه. ومنهج ماركس غير فلسفته. هنا يكون الفاعل في التفكير والاستنتاج عقل واسع يستوعب أكثر من مجرد عامل أحادي حاصر. والعبقري يتجاوز نفسه وثوابته المنطقية باستعمال العقل. وقد فعل العقل فعله في توسيع آفاق المفكرين وإخراجهم من حدود التمذهب إلى الشمولية التي تتسع لشتى المناهج والأفكار والمذاهب”.
أين تكمن فلسفة ماركس الحكيم؟
لم يكن ماركس ينظر إلى الإنسان بوصفه بهيمة، بل على أنه كائن مادي روحي. ولكن تجريد الإنسان من حاجاته المادية على يد سلطة الدولة وسلطة المال جعل ماركس يركز على هذه الحاجات أولاً. وهذا هو التفكير المشترك مع حكماء الشرق، التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم المادية والنضال لإشباعها، بمعنى العمل على إيجاد الراحة للخلق. وهؤلاء كانوا في زمانه العمال، وكانوا لا يزالون السواد الأعظم من سكان أوربا. كان ماركس مرهف العاطفة كغيره من الحكماء، ومن ذلك حبّه الشديد لزوجته جيني، كان قلبه يتوهج عشقاً لها، ولعل السبب أنه كثيراً ما كان يفارقها لكثرة مهامه، والفراق يؤجّج الحب. وقلبه فيما عدا ذلك عامر بالوجدان مهموم بمعاناة المعذّبين في الأرض.
الفلسفة الماركسية هي احتجاج ضد العتمة، احتجاج ضد عبودية رأس المال، احتجاج متشرب بالإيمان في الإنسان، وبقدرته على تحرير ذاته من تلك القيود الثقيلة التي تكبّل حياته والسعي لتحطيم هذه القيود والانتقال إلى مجتمع خال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. والسؤال المهم هل شبح ماركس الذي يجول في أنحاء العالم ما زال يرعب أهل السلطة والمال ويقلق راحتهم؟ نعم، بكل تأكيد. إنه أحد الذين تصوروا الكائنات البشرية المحيطة به تعيش حياة غنية ومتنوعة سعيدة ومرضية وحرة في مجتمع ما بعد الرأسمالية.
لا يقتصر فكر ماركس على مشروع سياسي ثوري. فهو يقدم نقداً أخلاقياً لاغتراب الفرد الذين يعيش في المجتمعات الرأسمالية، لأن الوعي الاجتماعي للأفراد يعتمد في الأساس على الظروف المادية التي يعيشون فيها. وبتتبعه تطور أنماط الإنتاج المختلفة التي مرت فيها البشرية، يجادل بأن الشيوعية ستحل محل الرأسمالية الحالية، وستكون نهاية الشوط في سلّم الرقي الحضاري. والظاهر أن هذه الفكرة الجوهرية التي كانت مستعصية كلياً على الفهم، في زمانه، أصبحت اليوم قاب قوسين أو أدنى من التجسد في عالم اليوم، بمعنى سيسير المجتمع البشري نحو التخلص من أوزاره ويحقق العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة التي يطمح إليها البشر من آلاف السنين.
ينظر بعض المفسّرين إلى نص (بيان الحزب الشيوعي) على أنه النقطة التي بدأت فيها أفكار ماركس في الظهور بشكلها الناضج. يشرح ماركس مفهوم الفكر الثوري للطبقة العاملة، ويقترح أساس مهمتها التاريخية: إلغاء الملكية الخاصة- وهي واحدة من أنبل وأجرأ الأفكار على مرّ العصور- وتحقيق التحرر من رتق عبودية رأس المال. ويجادل بأن العمال المعاصرين يُقصَون عن السلع التي ينتجونها ويُقصَون عن أدوات اتحادهم، لذلك كان شعاره المشهور: (يا عمال العالم اتحدوا)! فبدلاً من تحقيق شعور بالرضا وتحقيق الذات في عملهم، فإن العمال يستهلكون جسدياً وروحياً ومن ثمّ يرمون على قارعة الطريق في أرذل العمر.
وقد وضع ماركس هذه الفكرة في سياق مبكر من حياته، وهو في السابعة والعشرين من عمره في مقال مشهور هو (موضوعات عن فيورباخ)، التي كتبها في بروكسل في ربيع عام 1845عندما أتم من حيث الخطوط الكبرى تطوير نظريته. يكشف ماركس في هذه الموضوعات النقص الجذري الذي يشوب على السواء مادية فورباخ وكل المادية السابقة، أي طابعها التأملي، وعدم فهم أهمية النشاط الثوري. وفي ختام هذه الموضوعات كتب جملته المشهورة (الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تقوم في تغييره). وقد قال فريدريك أنجلز إن هذه (أول وثيقة تحتوي النواة العبقرية للمفهوم الجديد عن العالم). نشر أنجلز لأول مرة هذه الموضوعات في عام 1888 في ملحق لطبعة منفردة لكتابه (لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية).
ولو تأملتَ في عدد من الكتب والدراسات التي صدرت حديثاً في مختلف لغات العالم، وأخذتَ عيّنات من كتبه: رأس المال، بيان الحزب الشيوعي، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت، نقد برنامج غوتا، مخطوطات ماركس عام 1844، رسائله مع رفيق دربه فريدريك أنجلز، سيرة حياته، أشعاره، نعم، فقد كتب ماركس شعراً في شبابه، والتي يتداولها أعداد متزايدة من الناس، لتأكدتَ أنه أحد أعظم الفلاسفة في كل العصور. نعم، كان كارل ماركس فيلسوفاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتحاد” الحيفاوية 3 تموز 2020

عرض مقالات: