منذ تسنم السيد مصطفى الكاظمي منصب رئاسة الوزراء في العراق، والأخبار تتوالى على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض الفضائيات العراقية، حول جملة من الإصلاحات التي ستغير الخارطة الاقتصادية في العراق، لكن تفاجئنا بان باكورة هذه الإصلاحات كانت بقطع جزء من رواتب المتقاعدين، والذي أثار ضجة كبيرة في الشارع العراقي مما اضطر الحكومة بالتراجع عن قرارها وإعادة المبالغ المستقطعة بعد مرور يومين، ثم جاءت الخطوة الثانية من الإصلاحات، بتلويح الحكومة بقطع جزء من رواتب الموظفين، وتصريح وزير المالية بأن العراق مقبل على سنوات تقشف عجاف، بعدها تم  قطع رواتب ما يعرف بمحتجزي رفحاء، وهم بعض سكان جنوب العراق الذين لجئوا إلى الأراضي السعودية بعد انتهاء حرب الخليج الثانية سنة 1991 هربا من بطش النظام آنذاك، وعلى الرغم من أن هذا الملف فيه الكثير من الهدر والإسراف بالنسبة للحقوق والرواتب الممنوحة لهذه الفئة.. لكن هل مشكلة  الاقتصادية في العراق تكمن في رواتب الموظفين، أو أن عدة آلاف من المواطنين يتقاضون رواتب عالية، أمام مئات المليارات التي سرقتها مافيات السلطة التي تعاقبت على حكم العراق منذ 2003 ولغاية الآن. حكومة السيد الكاظمي على الرغم من صدق نواياها في الإصلاح، لكن بوصلتها مشوشة، وإرادتها مكبلة، بفعل هيمنة بعض أحزاب السلطة عليها والتي كانت سبب في وجودها، وبذلك فأن أي حلول اقتصادية جذرية يجب ان تمر من خلال الكثير من البوابات السوداء لترى النور، ومنها أن لا تمس هذه الإصلاحات مصالح القوى المتنفذة في العراق، وهذا بدوره أدى إلى هزالة هذه الحلول وافقدها جديتها. الوضع العراقي الراهن محاط بكم كبير من الأزمات على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والصحية بسبب جائحة كرورونا وانخفاض أسعار النفط، والذي جعل من هذا البلد الريعي رهينة لهذه السلعة التي يعتمد اقتصاده على وارداتها بنسبة خمسة وتسعون بالمائة، وحكومة السيد الكاظمي التي جاءت كردة فعل على تظاهرات  تشرين تجد نفسها في تحدي كبير وسباق مع الزمن لتلبية بعض مطالب الشارع العراقي المنتفض على الفساد منذ أكثر من ستة أشهر، لذا لجوئها إلى الحلول الترقيعية ذات الصدى الإعلامي الكبير كانت حلا تكتيكيا، لا يستطيع الصمود والمطاولة على المدى البعيد، فمشكلة العراق ليست رواتب الموظفين ومحتجزي رفحاء ومزدوجي الرواتب كما يصورها بعض مناصري الحكومة، المشكلة العراقية أعمق واكبر واعم، تتغلغل لتصل إلى البنية الاجتماعية والبيئية التي أنتجت الحكومات الفاسدة التي توالت على حكم العراق من سبعة عشر عام، وفي فقدان العراق لقراره السيادي على أرضه وسمائه ومائه، وعجز حكوماته  عن السيطرة على موارده الاقتصادية، وتهالك بناه التحتية بفعل الحروب والفساد، وصراع أحزاب السلطة على مراكز المال والنفوذ، وما يجري اليوم هو جزء مهم وخطير من هذا الصراع، الذي أخذ شكلا جديدا هذه المرة،  جاعلاَ من الإصلاحات وسيلة وشماعة لتصفية الحسابات فيما بينها، والهيمنة على الدولة العميقة، التي تتحكم بكل مفاصل الدولة، وهي الحاكم الحقيقي لها.

إذا أراد السيد الكاظمي النجاح في مهمته الصعبة، فعليه الابتعاد عن هذه الصراعات، وان يجنب حكومته الفتية مواجهة مباشرة مع أحزاب السلطة ستؤول إلى الفشل، وهذا ما نوه إليه مؤخرا رئيس مجلس النواب العراقي بقوله (على حكومة الكاظمي أن لا تنسى المهام والواجبات التي جاءت من اجلها) وهذا تحجيم واضح ومباشر لهذه الحكومة، وتذكير بأن الهدف من وجودها هو لتأمين أجواء صحية ومناسبة لإجراء الانتخابات النيابية القادمة، لا أن تتحول إلى حكومة إنقاذ وطني، تنسف هرمية السلطة في العراق، وبنيتها السياسية والاجتماعية، التي ترتكز عليها. الإصلاحات مطلب جماهيري لكنها تحتاج إلى رؤية واضحة، وتخطيط بعيد المدى، ونفس طويل، وتأييد سياسيي وجماهيري، وان فقدانها لأي من هذه الركائز سيجعل منها مسرح لصراعات كبيرة يكون الخاسر الأكبر فيها المواطن، والذي ستدخله  في معادلة جديدة تضعه بين مطرقة الإصلاحات وسندان صراع السلطة، وستقوده إلى خيبة أمل كبيرة، وستكون القشة التي ستقصم ظهر العملية السياسية في العراق، وتقود الجميع بما فيهم العراق إلى المجهول.

عرض مقالات: