يعاني عالمنا اليوم من تأثيرات التغييرات المناخية مما يهدد اسس وطرق الحياة. وهناك اراء تشير باصابع الاتهام الى التكنولوجيا على انها المسبب لهذه الكوارث ولتدمير الطبيعة. وحسب هذه الاراء يجب على المجتمعات، لانقاذ الطبيعة والبشر، ان تتخلى عن التكنولوجيا. لذا يجب ان نحدد الطبيعة الحقيقية للتكنولوجيا لنتمكن من اتخاذ القرار الصائب لحل هذه المعضلة.
ومن أجل فهم جوهر التكنولوجيا، لا يجب على المرء ان ينطلق من النظرة الشائعة القائلة ان التكنولوجيا هي الالات والمعدات والاجهزة، وعلى الأقل لايجب ان يختصرها بالفكرة "الجذابة" التي تقول: أن غرض وهدف التكنولوجيا هو تصنيع وانتاج الاجهزة والآلات والأدوات. فهذه النظرة (الميكانيكية) ستلغي وتحجب الكثير من الحقائق لفهم قوانين تطور وحركة المجتمعات البشرية.

المفهوم الماركسي للتكنولوجيا

تابع انجلز وبدقة المعارف والاكتشافات الجديدة في علوم الاحياء والتطور بشكل خاص وكذلك في علوم الانثروبولوجية، وكان هو سوية مع ماركس اول من ربط مفاهيم واكتشافات هذه العلوم بتطور المجتمعات البشرية، وقام بتوثيق ذلك في اعمال متعددة ومن اهمها عمله المسمى: دور العمل في تحول القرد الى انسان
(Anteil der Arbeit an der Menschwerdung des Affen).
ربط انجلز عملية تطور صناعة واستعمال الادوات (التكنولوجيا) عند الانسان بعمليات التطور التي جرت على اعضاء الجسم البشري وتطور وظائفها. فكتب في هذا العمل:
"
ولكن الخطوة الحاسمة كانت قد تمت: أن يد الانسان قد تحررت وغدا بوسعها مذ ذاك ان تكتسب اكثر فاكثر مهارات جديدة، والمرونة المتنامية على هذا النحو انتقلت بالوراثة وازدادت جيلا اثر جيل." ( ف. انجلز).
واكتشف كذلك ان عمليات التطور هذه لم تقتصر على الناحية الفسيولوجية فقط بل رافقتها عمليات تطور اجتماعية.
"
ان السيطرة على الطبيعة، ان هذه السيطرة التي بدأت مع تطور اليد،...، قد وسعت افق الانسان لدى كل خطوة الى الامام. فقد كان يكتشف على الدوام، في اشياء الطبيعة، خصائص جديدة لم يكن يعرفها سابقا. ومن جهة اخرى، اسهم تطور العمل، بالضرورة، في تمتين الصلات بين اعضاء المجتمع اوثق فاوثق باكثاره حالات العون المتبادل والنشاط المشترك، وبتوضيحه اكثر فاكثر ادراك فائدة هذا النشاط المشترك لكل فرد." (المصدر السابق)
و على هذه الاسس استندت طريقة التفكير الماركسي في تحليل العلاقة بين الانسان والطبيعة، هذه العلاقة التي جوهرها علاقة صراع تفاعلي، وتمتد جذور هذا الصراع التفاعلي مع الطبيعة الى بداية ظهور الحيوانات على الارض، فالحيوانات تختلف عن الكائنات الاخرى التي سبقتها في التطور، فهي كائنات متنقلة ولذلك فهي تمتلك حرية واستقلالية من الظروف الطبيعية بعكس النباتات مثلا. فيقول الشافعي:
الأسد لولا فراق الغاب ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم تصب
هذه الحرية تدفع الحيوانات لصراع مستمر مع الطبيعة، وتزداد شدة هذا الصراع ويكتسب نوعية اخرى من خلال سعي الانسان للسيطرة على الطبيعة لصالحه ولم يكن ذلك ممكنا بدون استغلال الانسان المستمر لموارد الطبيعة.
"
وهكذا، بكلمة موجزة، نقول ان الحيوان يستفيد من الطبيعة الخارجية فقط ويدخل عليها تعديلات بمجرد وجوده بينما الانسان يحملها على خدمة اغراضه بما يدخل عليها من تغييرات ويسيطر عليها. وفي هذا يقوم الفرق الجوهري الاخير بين الانسان، وسائر الحيوانات، وهذا الفرق انما يدين به الانسان ايضا للعمل." ( المصدر السابق)
وقام انجلز بتسمية عملية استغلال الانسان المستمر لموارد الطبيعة وتكييف هذه الموارد لتصبح صالحة لسد حاجاته بواسطة صنع الادوات بالعمل.
"
فقد بدأ العمل من صنع الادوات" ( المصدر السابق)، كما وفهم انجلز الانتاج على انه نوع من العمل.
ولكن المصلحة والحاجة، للقيام بعمليات اكثر تعقيدا للسيطرة على الطبيعة، عززت العمل الجماعي وطورت طبيعة ودورالمجتمع.
"
وبفضل تناسق عمل اليد والدماغ واعضاء النطق لا عند كل فرد وحسب، بل في المجتمع ايضا، اصبح بمقدور الناس ان يقوموا بعمليات اكثر فاكثر تعقيدا وان يستهدفوا ويبلغوا اهدافا ارفع فارفع. ومن جيل الى جيل اختلف العمل نفسه وازداد اكتمالا وتنوعا. والى صيد الحيوانات البرية وتربية المواشي انضمت الزراعة والى الزراعة انضم الغزل، والحياكة، وتكييف المعادن، وصنع الانية الفخارية، والملاحة." (المصدر السابق)
فهم ماركس التكنولوجيا كقوة إنتاجية، واثر مستوى تطور قوى الانتاج الجديد، بعد ما يسمى الثورة الصناعية الاولى، على علاقات الانتاج وساد نمط الانتاج الرأسمالي وهذا يعتمد على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وتوزيع اجتماعي متباين للثروة و يتميز بقوى انتاج متطورة. وبدأ استهلاك واستغلال الموارد الطبيعية يزداد بشدة وبشكل مفرط واصبح هدفه الرئيسي ليس سد الحاجات بل تحقيق اعلى الارباح. فاصبح تحقيق الارباح القيمة العليا والهدف في عملية الانتاج الرأسمالية، وارتبط نجاح الافراد والمؤسسات او الشركات بمدى قدرتهم على تحقيق الارباح، فكلما ازدادت ربحيتهم فهذا دليلا على نجاحهم بغض النظر عن نوعية ومستوى القيم الاجتماعية الناتجة فاصبح الربح قيمة عليا بحد ذاته.

التكنولوجيا والطبيعة

نبه انجلز الى مخاطر المبالغة في استغلال الطبيعة والسيطرة عليها الى حد الانتهاك وسلبها قابلية تجديد نفسها.
"
بيد انه يترتب علينا الا نغالي في تقدير انتصاراتنا على الطبيعة. فهي تنتقم منا عن كل انتصار نحرزه. يقينا ان كل انتصار ينطوي بالدرجة الاولى على النتائج التي توقعناها، ولكنه ينطوي ايضا بالدرجة الثانية والثالثة على مفاعيل مختلفة تماما، غير متوقعة، تقضي في كثير من الاحيان على اهمية هذه النتائج الاولى. فأن الناس الذين استأصلوا الغابات في بلاد ما بين النهرين، واليونان، واسيا الصغرى وغيرها من المناطق لكي يكسبوا ارضا صالحة للحراثة، كانوا ابعد من ان يتوقعوا انهم بذلك انما يمهدون للمَحَّلُ الشامل السائد حاليا في هذه البلدان، اذ دمروا مع الغابات مراكز تجمع الرطوبة وصيانتها"(المصدر السابق)
ان النظرة الى التكنولوجيا على انها الالات والمعدات والاجهزة وعلى ان هدفها التصنيع والانتاج فقط، هذه النظرة (الميكانيكية) ستلغي وتحجب الكثير من الحقائق الضرورية لادراك مايحدث من كوارث وعلاقات مختلة مع الطبيعة حاليا. وستغلق العيون وتمنعها من رؤية تعقيد وتداخل حركة المجتمعات البشرية.
وقام هؤلاء المفكرون "الميكانيكيون" باطلاق مصطلح "التقدم التكنولوجي" على حركة الابتكار وادخال وتصنيع وانتاج الاجهزة والمعدات الجديدة، وبدأ تاريخ ولادة هذا المصطلح الكبير في القرن الماضي والقرن الذي سبقه أي بعد الثورة الصناعية الاولى. فأقتصرت نظرتهم إلى التاريخ على أنه طريق باتجاه واحد كالسراط المستقيم تلتزم "البشرية" دوما بالسير عليه إلى الأمام وبشجاعة، وطبعا كان هذا يعني بالنسبة لهم انه خاص بالشعوب البيضاء وزادوا على ذلك وقالوا انه ينطبق حصرا على سكان الحواضر فقط، أي ممن يدعونهم "المتعلمين والمثقفين".

التكنولوجيا والمجتمع والاستدامة

لكن إلى أين نسير؟ وكم هي المدة؟ وماذا بعد ذلك؟ معضلتنا كبشر هي أننا نعيش في عالم محدود، ولكننا نتصرف كما لو انه لا ينضب.
بلغت مستويات الاستهلاك الجائر لموارد الطبيعة، نتيجة العلاقات الراسمالية السائدة، حدا اخذ يهدد مصير البشرية وشروط معيشتها على كوكب الارض، واصبح من الملح على مؤسسات المجتمع المدني والحكومات ان تتدخل لوقف هذا الدمار، فظهر واستخدم مصطلح الاستدامة منذ ثمانينيات القرن العشـرين بمعنى استدامة شروط العيش البشرية على كوكب الأرض ومهد هذا المفهوم إلى التعريف الأكثر شيوعا للاستدامة والتنمية المستدامة حيث عرفته مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في 20 آذار 1987: "التنمية المستدامة هي التنمية التي تفي باحتياجات الوقت الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة." وهذا لن يكون ممكنا الا بتغيير العلاقة بين المجتمع والطبيعة وبتدخل المؤسسات الاجتماعية للحد من السعي الاعمى للمؤسسات الرأسمالية لجني الارباح على حساب معيشة البشر ومستقبلهم.
يدعوا الحزب الشيوعي العراقي في برنامجه الى:
"
تبني استراتيجية تنمية مستدامة، واعتماد خطط تنموية متوسطة وقصيرة الأجل، بالاشتراك مع حكومة الاقليم والحكومات المحلية، تهدف إلى توسيع وتنويع وتحديث قاعدة الاقتصاد، وتنمية القدرات البشرية، والاستخدام العقلاني والكفوء لموارد البلاد، بما يحقق مستوى ونوعية حياة أفضل لجميع المواطنين."
نتيجة عملية التطور الطبيعي اصبحت التكنولوجيا اداة بيد الانسان في تعامله مع الطبيعة وستبقى هكذا فلايمكن للانسان والمجتمعات البشرية التعامل مع الطبيعة الا بواسطة التكنولوجيا.
استخدم الرأسماليون التكنولوجيا لتحقيق وزيادة ارباحهم فدمروا اسس الحياة على كوكب الارض، ولن يمكن تصحيح هذه المعادلة الا حين يصبح استخدام التكنولوجيا تحت رقابة المجتمع والمواطنين وان تستعيد هدفها الاساسي في سد حاجات الانسان والمجتمع الانساني وليس لتحقيق الارباح لاغتناء حفنة من الرأسماليين. والاستدامة هي حاجة اجتماعية انسانية عامة.
وكما ورد سبقا، اعطت الماركسية اجوبتها عن مفهوم التكنولوجيا وربطت ذلك بشدة بطبيعة العلاقات الاجتماعية وحركة تطورها.
لذلك لن تتمكن البشرية من مواجهة التحديات الناتجة عن ما احدثته العلاقات الرأسمالية في تخريب الطبيعة وتحقيق تنمية مستدامة الا من خلال أجراءات تستهدف تغيير جوهري لطبيعة العلاقات واستخدام التكنولوجيا في ظل علاقات اجتماعية تلغي الربح كالهدف الاساسي لعملية التفاعل مع الطبيعة وتضع سد حاجة الفرد والمجتمع كهدف اساسي في عملية الانتاج والتعامل مع الموارد الطبيعية. وهذا ينطبق على العراق ايضا بصفته جزء من هذا العالم.