في الجزء الاول اشرنا الى ان الدساتير والتشريعات في بلادنا اذا لم تأخذ دورها الفاعل في الحفاظ على النظم السياسية الراسخة والاقتصادية والاجتماعية والامنية وتحقيق العدالة لمواطنيها في مجال توزيع الثروات المادية وتأمينها من عبث الفاسدين الاشرار من خلال احكام الرقابة على اداء اجهزة الدولة بمختلف مسمياتها ومنع انحرافها عن الخط العام، فأنها لن تكون سوى سردا لفظيا مثيرا للاعتراض.وان قوة الدولة وهيبتها لا تستقيمان في ظل الازمة الاقتصادية وتفاقم الازمة الاجتماعية وما افرزته من توسيع الفجوة بين السلطة والجماهير التي انتفضت في هبة شعبية لم يشهدها تاريخ العراق الحديث.
وفي الجزء الثاني سنتوقف عند الظواهر المشتركة بين وزارات الدولة ومؤسساتها والتي تجد تعبيرها الملموس في العجز عن تنفيذ الخطط والمشاريع والتي تسببت في هدر اكثر من تريليون مليار دولار من خلال انتشار الفساد الاداري والمالي وتدهور البنية الاقتصادية.
صحيح ان كل وزارة او مؤسسة حكومية تمتلك خصوصيتها التي تميزها عن غيرها بسبب الاختلاف في طبيعة المهام وموقعها في عملية الانتاج والخدمات التي تقدمها الى المجتمع وما تتطلب من اليات وادوات خاصة بها رغم تشاركها في العديد من هذه المهام مع غيرها من الوزارات ما شكل ظواهر مشتركة لطالما اشرتها تقارير ديوان الرقابة المالية والتي وان اقتصرت على الفصل الاول من عام 2019 الا انه يمكن الاستنتاج في نهاية المطاف ان خلاصة هذه التقارير لم تكن انطباعية كما قد يتصور البعض بل استندت الى بيانات حقيقية امتدت جذورها الى سنوات خلت وتراكمت تلك الظواهر بكثافة لدرجة تحولت الى امراض معدية وفتاكة ومن الممكن تصنيفها على النحو الاتي :

مخالفة التعليمات والضوابط

من الواضح لكل متابع ان التشريعات والتعليمات والتي تشكل الضوابط الاساسية واجبة الالتزام بنصوصها هي في الحقيقة لم يجر وضعها لأغراض المعرفة او السرد وانما لتسهيل تنفيذ الخطط والمشاريع التنموية التي تستهدف ايصال المجتمع الى مستوى الرفاهية ووقايته من الانحرافات التي تحركها الميول الشخصية للطبقة البيروقراطية المهيمنة على الجهاز الحكومي ولكن بدلا من التقيد بنصوصها لخدمة المجتمع فأنها اول من بادر ولنوازع ذاتية وحزبية لانتهاك هذه الضوابط. فوفقا لتقارير ديوان الرقابة المالية فان اول هذه القوانين المنتهكة هو قانون الادارة المالية والدين العام رقم 95 لسنة 2004 وقانون ديوان الرقابة المالية الاتحادي رقم 31 لسنة 2011 وقانون الشركات رقم 22 لسنة 1997 المعدل بالإضافة الى التجاوز على تعليمات تنفيذ الموازنة الاتحادية العامة وتعليمات تنفيذ العقود الحكومية وسنفرد لهذه التعليمات حقلا خاصا لاحقا .
ان هذه الانتهاكات قد ترتب عليها نتائج وضعت الجهاز الحكومي على حافة الانهيار وتمظهرت في تخلف دوائر الدولة وشركاتها العامة وضياع بوصلتها في تقديم البيانات المالية خلال الفترة المقررة قانونا مما تسبب في الحجب عن الاجهزة الرقابية ومن ثم الراي العام ، كيفية ادارة المال العام واوجه الصرف في المجالات المخصصة له كما تمتنع هذه الاجهزة عن قصد او بدونه عن التعاطي مع الاجهزة الرقابية ومخاطباتها وبالتالي تضييع الوقت بدون طائل، فضلا عن ذلك تراكم العجز في هذه الشركات بنسبة 50 في المائة من رأسمالها يصاحب ذلك غياب عمليات التقويم التي ينبغي ان تقوم بها الوزارات في الجوانب الاقتصادية وعرض النتائج على مجلس الوزراء لاتخاذ الاجراءات اللازمة للحد من هذا السلوك الضار والمتباطئ الذي يعبر عن اهمال وفقدان الكفاءة الادارية والاقتصادية فضلا عن ذلك فان من الظواهر المباحة في جهاز الدولة الانتهاك في تنفيذ تعليمات الموازنة العامة والتلاعب في التخصيصات المالية والتجاوز على الموازنات الاستثمارية لأغراض الانفاق التشغيلي وما فيه من هدر في المال العام واعطاب العملية الاقتصادية وايقافها عن النمو.

الانتهاكات في العقود الحكومية

قد يكون جزء من الهدر المالي لم يكن مقصودا وانما ناتجا عن ضعف كفاءة الاداء من خلال عدم وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب لكن ذلك في المحصلة يشكل ضياعا للثروة بسبب الافراط في انتشار الفساد وصحيح ان الكثير من الممارسات تدخل في باب الفساد ومن ضمنها الرشوة وبيع المناصب الحكومية في اسواق خاصة تحت الارض اعدت لهذا الغرض بيد ان اسوء اشكال الفساد تكمن في العقود الحكومية التي تبدا اولى خطواتها بعدم الالتزام بالقوانين والتعليمات الناظمة لها وتوضيحا لأشكال الانتهاكات نشير الى ما يلي :
التأخر في الشروع بالتنفيذ بعد صدور اوامر الاحالة من قبل الاطراف الحكومية وعدم قيام بعض الشركات المتعاقد معها على تقديم اعمال مماثلة للتأكد من توفر الخبرة والقدرة على الانجاز تعزيزا للموثوقية.
مخالفات ادارية فضة تتمثل بتشكيل لجان تحليل العطاءات التي تفتقر الى الخبرة مما يجعلها تهمل الكثير من المقومات الحصيفة لتحليلها بهدف احتساب نسب الترجيح للعروض المالية والفنية ولأغراض المفاضلة والاختيار المناسب من العطاءات مما يحمل الكثير من الثغرات والنواقص وما يترتب عليها من تعظيم التكاليف التي تتحملها الدولة وضعف الانجاز وتكون المشاريع اكثر عرضة للانهيار خلال فترة قصيرة.
التأخر في ارسال العقود الى ديوان الرقابة المالية من اجل تدقيقها وفقا للشروط القانونية والضوابط المقررة والتأخر في مفاتحة وزارة التخطيط لغرض التحقق من صحة وسلامة الجهات المتعاقد معها والتأكد من انها لم تدرج في القوائم السوداء وايضا عدم ارسالها الى جهاز المخابرات (للتدقيق لطفا ) للتأكد من المواد المجهزة.
ومن ابرز الانتهاكات تمديد فترة الانجاز بانقضاء فترة طويلة على فترة الانجاز التعاقدية مضافا اليها نسب الانجاز المتدنية بسبب التلكؤ والاهمال من قبل الشركات المنفذة وتماهل الجهات الحكومية في اتخاذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين.
ومن الجدير بالذكر ان الفشل في تنفيذ التعاقدات الحكومية يقف وراءه، من بين اسباب عديدة ، الغموض الذي يكتنف طائفة كبيرة من الضوابط والتعليمات التي تتيح لطرفي العقد التملص من المسؤولية والتذرع بعدم وضوح النصوص القانونية والاجتهاد الفوضوي في تفسير تلك النصوص التي قد تكون شرعت بنصوص غير واضحة لغاية في نفس يعقوب والتي ادت في الغالب الى ضعف الانجاز والبحث عن الذرائع والمبررات لتمديد مدة العقد وربما التوقف المطلق عن اكمال المشروع المعين وتآكل شروطه المتفق عليها بسبب الوضع الامني مثلا او البيروقراطية الادارية وضعف المتابعة وتبادل الاتهامات بين الاقسام ذات الاختصاص وتحميل لجان التعاقد مسؤولية الفشل في التنفيذ مع ما فيها من وجاهة في الكثير من الاحيان واسوء النتائج المترتبة عن كل تلك الاسباب دفع كامل مبلغ العقد رغم قلة الانجاز وعدم الشروع في ملاحقة المقاولين الذين لا يعرف مكانهم الا الضالعون في العلم حيث لم يقدموا الضمانات المطلوبة بسبب تواطؤ اللجان.

عرض مقالات: