مرت في الثامن ايار، حسب توقيت وسط اوربا (التاسع من ايار حسب التوقيت الروسي) الذكرى الخامسة  والسبعون  للانتصار على الفاشية في اوربا. ويحتفل ملايين الناس في اكثر بلدان العالم بهذا اليوم عادين اياه يوما للتحرير والامل، انه اليوم الذي شهد استسلام جيش المانيا النازية غير المشروط، والذي مثل اعلان نهاية الدكتاتورية النازية. وقد شهدت المانيا هذا العام انطلاق حملة للمطالبة باعتبار اليوم، يوم استذكار، ويوم عطلة رسمية في جميع انحاء البلاد. وتحظى هذه الحملة بدعم قوى اليسار الجذري والنقابات والحركات الاجتماعية والعديد من المبادرات الاخرى.

وصدرت بهذه المناسبة العديد من البيانات والتصريحات من هذه القوى شددت رغم اختلاف مشاربها الفكرية على مشتركات مهمة منها، ان الثامن من ايار هو اليوم الذي انتهت فيه  المعاناة  التي لا توصف، جراء ملايين جرائم القتل والابادة الجماعية، وان انتصار قوات الحلفاء على الوحش النازي مثل نضالا  وانتصارا مشتركا على الخطر الذي هدد القيم الأساسية للانسانية والبشرية جمعاء متمثلا بالنازية ومعاداة السامية والجنون العنصري. وهو يوم للتحذير والفرح، لانه أشر ويؤشر بالملموس اين يقود التطرف والتعصب والطاعة العمياء.

 وبالنظر  لصعود احزاب اليمين المتطرف والنازيين والفاشيين الجدد في العديد من البلدان الأوربية وبلدان العالم الأخرى، استذكرت البيانات الجرائم الراهنة للنازيين الجدد، ضد اللاجئين والاجانب  والقوى المتضامنة معهم، وكذلك عمليات الاغتيال السياسي التي لم تستثن حتى سياسيين من احزاب اليمين التقليدي، والتي عاشتها العديد من المدن الألمانية في السنوات الاخيرة. وان هذه الاحداث تؤكد بما لا يقبل الشك أن أفكار  أيديولوجية العنف ومعاداةالانسان لا تزال حاضرة. وإن الأفكار اليمينية المتطرفة والعنصرية وأساطير المؤامرة تشهد نهضة زاحفة جديدة. ولهذا السبب من المهم أن نفهم ونحتفل بيوم التحرير باعتباره يوما للاستذكاز  والشجاعة في دفاع عن استمرار الحياة وسيادة قيم السلام والعدالة الاجتماعية.

وطالبت البيانات بدرجات مختلفة من التشديد الحكومة الاتحادية الالمانية بضرورة ادراك   البعد التاريخي والاجتماعي لهذا اليوم وأن توظف ذكراه الخامسة والسبعون ) ،لإرسال إشارة ضد الأفكار اليمينية العنصرية، واعتبار يوم التحرير، يوما لتعزيز واحياء قيم الإنسانية والتسامح والديمقراطية. وضرورة إعطاء يوم التحرير المكان الذي يستحقه في الذاكرة الاجتماعية.  

شخصية استثنائية وحملة مشروعة

استير بيجارانو فنانة و مناضلة استنائية ضد الفاشية شخصية تتمتع بفرادة تاريخية، فهي واحدة من الناجين من معسكرات الابادة الجماعية النازية، فالفتاة المولودة لعائلة فنية في عام 1924 ، مرت في سنوات 1941 -1945 بعدد من معسكرات العمل الاجباري والمعتقلات النازية،  الى  ان تم تحريرها في الثامن من ايار، بعد ان نجت من مسيرة الموت النازية، التي جاء قطار الموت البعثي في العراق في عام 1963  على غرارها، وبعد ذلك غادرت المانيا الى فلسطين لتعود اليها في عام 1960 مع زوجها الشيوعي وطفليها، وحال عودتها انضمت  وزوجها الى صفوف  الحزب الشيوعي في المانيا السري، ومنذ عام 1968 في الحزب الشيوعي الالماني بعد اجازته، وفرض تغيير  طفيف في تسمية الحزب.  ولكنها تركز كفنانة وناشطة سياسية على عملها في الحركة المناهضة للفاشية، فهي رئيسة لجنة  معتقل أوسشفيتز في المانيا والرئيسة الفخرية لعصبة المناهضين للفاشية في اوربا. وما تزال صاحبة السادسة والتسعين عاما تغني في فرقة " ما فيا مكرفون"  ذي التركيبة الأممية، والتي يشارك فيها ايضا ابنها وفنانان  من ايطاليا وتركيا، والى جانب ذلك تنظم حوارات في المدارس، وفي المناسبات العامة كشاهدة على العصرلفضح جرائم الفاشية، وعدم نسيان افعالها البشعة، بالاضافة الى مشاركتها في النشاط السياسي والاجتماعي العام.

و في هذا العام اطلقت مع عصبة المناهضين للفاشية حملة مفتوحة للمطالبة باعتبار الثامن من ايار عطلة رسمية، واشارت انها وجهت في 26 كانون الثاني، يوم تحرير معسكر الاعتقال النازي  "اوسشفيتز"  رسالة مفتوحة: "الى الحكومة والى جميع الناس الذين يريدون ان يتعلموا من التاريخ" . والى جانب المطالبة با عتبار الثامن من ايار عطلة رسمية تضمنت الرسالة ايضا "يوم  يمكن فيه الاحتفال بتحرير البشرية من النظام النازي. وقد تأخر ذلك  سبعة عقود. وربما من المفيد أن نفهم في النهاية أن الثامن من ايار 1945 كان يوم التحرير ، ويوم هزيمة  النظام النازي". اما نداء الحملة المفتوحة فقد اشار الى  إن فهم التدمير العسكري للفاشية من قبل الحلفاء وقوات الانصار ومقاتلي المقاومة ، على انها عملية تحرير يعني استخلاص الاستنتاجات الصحيحة منه، والعمل بموجبها، فمن غير المقبول، وبعد  خمسة وسبعين عاما، يجلس  ممثلو اليمين المتطرف في جميع برلمانات ألمانيا ، و جرائم القتل تتابع اسرع من اي وقت مضى.

وان استيعاب دروس الثامن من  أيار، بين امور اخرى، تعني ايقاف نشاط احزاب النازية الجديدة مثل حزب البديل من اجل المانيا، والحزب القومي الألماني. ومنع عنف وجرائم القتلة من النازيين الجدد وحل شبكاتهم داخل الجيش والشرطة. وضرورة تدخل السلطات عند تعرض المجموعات السكانية التي لا تلائم الاديولوجية النازية، مثل اليهود والمسلمين والغجر وغيرهم،  الى الاهانة والاعتداء، وكذلك استقبال اللاجئين في المانيا. وكسر منطق العسكرة، وايقاف تصدير الأسلحة، وايقاف حملات الاساءة والتشهير واعاقة عمل المنظمات الديمقراطية والمعادية للفاشية، التي تقوم بها اجهزة المخابرات ودوائر الضريبة.

ان خطب الأحد، والحديث  عن الاهتمام بالمناسبة لا يكفي. يجب أن يكون هناك نضال من أجل عالم جديد من السلام والحرية، وهي مهمة صاغها قسم  السجناء المحررين في معتقل بوخنفالد. وهذه هي المهمة في الثامن من ايار، وفي  سائر الايام. وعلى اساس ما تقدم تاتي المطالبة بالثامن ايار كعطلة رسمية في عموم المانيا. لقد حان وقت مكافحة الفاشية.

الشبيبة ويوم التحرير

الكثير من المقالات والمساهمات الوثقائية، تهتم عادة، باعادة فضائع الحرب العالمية الثانية وجرائم النازية الالمانية والفاشية الايطالية في اوربا الى الذاكرة، عبر الارقام والمعطيات والتحليلات، ولكن السؤال عن الكيفية التي تقرأ بها الشبيبة اليوم هذا الحدث لم ياخذ حيزه المناسب فيما يطرح، ولهذا توجهت جريدة "نيوزدويج لاند" (المانيا الجديدة) اليسارية بهذا السؤال الى ناشطين شباب، تفصلهم سبعة عقود عن الحدث، طرحوا في اجاباتهم تصورات ومطالب وجدت من المفيد نقلها الى الشبيبة العراقية وقراء الشرارة.

 عاليه كوتلو 27 عاما: يوم للغضب

 تقول الناشطة في مناهضة الفاشية، ان الثامن من ايار هو يوم مقاومة الفاشية، وكل يستطيع استذكاره بالطريقة التي يراها مناسبة، بشرط ان لا يجري اهمال ربطه بالحاضر. وان جرائم النازيين في شباط الفائت في مدينة هاناو، اكدت ان الفاشية لم يتم اقتلاعها، ففي عام 1945 انتهت الحرب ومعها الدكتاتورية النازية، ولكن اديولوجية النازية ما تزال مؤثرة. و لا يمكن أن يكون هناك استذكاردون التحدث عن حقيقة أن النازيين يستعدون مرة أخرى لتنفيذ هجمات في جميع أنحاء البلاد ، ويحتفظون بقوائم الموت ويجمعون الأسلحة ، وتتعزز الشبكات اليمينية المتطرفة داخل الجيش والشرطة. لذلك دعت كوتلو مع مجموعة من الشبيبة لاستذكار الثامن من ايار باعتباره يوما للغضب. واثارت الانتباه الى ان ازمة كورونا ادت الى تراجع استذكار الجرائم القريبة للنازيين الجدد، ورغم الاجراءات الوقائية جرى الاحتفال بيوم التحرير باشكال مختلفة .

 صاموئيل توماس 19 عام: مواقف ثابتة واحتفال افتراضي

يروي صاموئيل ان المدرس قال لجدته الشابة ابان سنوات الحكم الفاشي: " انت لا تبدين آرية" وهي جملة يمكن ان تؤدي حينها الى نهاية سيئة.  كانت جدته كاثوايكية النشأة، ولكن بعض اسلافها كانوا يهودا، ومن حسن حظها ان النازيين لم يعلموا بهذا الأمر، لهذا قدر لها ان تعيش. ويتحدث صاموئيل  الحاصل على شهادة الثانوية مع عائلته كتيرا حول الفاشية، فالموضوع مهم جدا بالنسبة لوالده القادم من ايران وامه الألمانية.

وبالنسبة له فان الثامن من ايار هو "يوم تحرير العالم من النظام السياسي للفاشية، ولكن ليس من تفكيرها". ويعمل باعتباره  عضوا شابا  في "عصبة مناهضة الفاشية" وفي شبيبة الحزب الديمقراطي الاجتماعي من اجل " رفض نشر الافكار اليمينية وشجبها". واحتفل بيوم التحرير عبر منتديات التواصل الاجتماعي، وركز على دعم حملة اعتبار الثامن من ايار عطلة رسمية. وفي شباك غرفته علق  رموزا وصورا لضحايا الفاشية ويقول "علينا ابقاء ذكرى الضحايا حية، واتخاذ مواقف ثابتة"

 أندرياس شميمان 24 عام: انه يوم الحرية

يقول اندرياس"اشكر التحرير من الفاشية على كل الحريات التي اتمتع بها". ويملك طالب التاريخ الكثير من الاصدقاء من العراق وتركيا وشريكة حياته، احدى الفارات من جحيم  الحرب في سوريا. ويؤكد كل ما اشرت اليه لم يكن بدون التحريرممكنا. ويسعى اندرياس، المنحدر من عائلة مهتمة بالسياسة، الى جعل قيم مناهضة الفاشية واضحة للجميع. ومن موقعه كأمين صندوق في عصبة مناهضة الفاشية، يعطي لعلاقته بالناجين من عمليات الابادة السابقة، باعتبارهم شهودا على العصر، اهمية خاصة، فهؤلاء يكتنزون تفاصيل تمكن الاجيال الاخرى من تمثل ما حدث داخليا. ويرى اندرياس ان المشكلة لا تكمن في الوصول الى النشطاء، بل الى الذين  ما زالوا يعيشون في قوقعتهم.

لقد احتفل اندرياس مع مجموعات مناهضة للفاشية هذا العام بطريقة مختلفة، عبر وضع الزهور على النصب الذكارية لضحايا النازية، ويعتبر اندرياس ان ذلك يمثل "احتفاء متواضعا" ، ولكن من المهم بالنسبة له ربط الماضي في الحاضر، فشريكة حياته السورية تتلمس العنصرية في الحياة اليومية في المانيا.

 غيادا ارمانتي 24 عام: شيء غيرمفهوم حدث لعائلتي

 بالنسبة لعائلة غيادا أرمانتي ، يكتسب الأول من اياراهمية  أكبر بكثير من يوم التحرير في الثامن منه. لقد اصبح جدها في سن السادسة عشر  نزيلا  في معسكرالاعتقال النازي في داخاو، وتم تحريره مع آلاف من زملائه في الأول من ايار عام 1945 من قبل القوات الامريكية. وتتذكر أرمانتي البالغة من العمر 24 عامًا أن جدها  كان يتحدث كثيرا عن هذا الحدث ، وعن اصابته  بمرض السل ، وعن مسيرة الموت النازية التي كانت تهدف الى  موت اكبر عدد من المعتقلين، وكذلك عن كرم  الجنود الذين قدموا له الطعام والملابس بعد التحرير. وما روته غيادا تلمسه  افراد عوائل الناجين من عمليات الابادة الجماعية، يوم بيوم، بوعي او بدون وعي. لقد كانت استذكاراتهم بعيدة عن اي تاريخ بعينه. وهذه الحقيقة تظل غير مفهومة، لان عمليات الاستذكار متواصلة في اذهان الضحايا. ولهذا ترى طالبة العلوم الاجتماعية ضرورة الاستذكا ( الاستذكار )  والاحتفال بيوم التحرر من النازية، ونهاية  الحرب العالمية الثانية:" بالنظرلتصاعد الافكار القومية واليمينية المتطرفة، تصبح مهمتنا ارسال رسالة ضد محاولات التبسيط والنسيان"

   إلينا بيتوهوفا 30 عاما: يوم الضحايا يبدو  هادئا في المانيا

 في روسيا يحتفل  في التاسع من ايار بيوم النصر. وتعرف إلينا بيتوهوفا هذه الاحتفالات منذ سن مبكرة. وعندما كانت تلميذة في المدرسة الابتدائية ، شاركت في مسيرات ذلك اليوم. وفي المدرسة حصلت على  معلومات ضافية  عن الناس والحرب، فلكل عائلة  كان هناك  ضحايا تقريبا. والينا تقضي عام تدريب علمي في النصب التذكاري لضحايا معتقل بوخنفالد، ولديها صعوبة مع الثامن او التاسع من ايار ومفردة احتفال. وتشعر أن ذاكرة الحرب في روسيا منقسمة. الدولة هناك هي الناشط السياسي الاكبر في شحن الذاكرة، انها تفكر في تعزيز سلطتها. وتقول الينا ان الابادة الجماعية على جميع المجموعات السكانية الذين وصموا بانهم يهود، الاسرى، عمال معسكرات العمل الاجباري، والضحايا المدنيين، في الغالب لا يجري استذكارهم في الاحتفالات الرسمية، ولكن في حكايات وذاكرة اغلب العوائل تجدهم  حاضرين .

وترى ان الذاكرة في روسيا عسكرية للغاية ، وفي ألمانيا غالبًا ما تكون صامتة . لقد كان  هناك خطب عامة ، ولكن لا يكاد أي شيء في هذه الايام، في الشارع مختلفً، ان مجرد كلمة "احتفال" لا تستطيع أن تفعل الكثير: فهي ترغب في ان يكون اليوم  عطلة في جميع أنحاء البلاد.وعندها سيكون  علامة على أن الناس يتذكرون ضحايا الفاشية، في وقت أصبح فيه اليمين المتطرف الجديد أكثر نشاطًا.

 * - نشر في العدد 130 من مجلة الشرارة النجفية

 

 

عرض مقالات: