ليس سهلاً العثور على مثقف أو طالب جامعي أو حتى ثانوي في فرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً، فاته أن يقرأ في شبابه وفترة تكوينه الفكري رواية فولتير "كانديد"، فهذا العمل ليس الأشهر بين كتابات فولتير وحسب، بل ربما يصحّ اعتباره واحداً من أشهر الروايات الأوروبية التي صدرت في القرن الثامن عشر لتُقرأ مترجمة إلى معظم لغات العالم، بما فيها العربية طبعاً.
ومع هذا، لن يكون من الغريب أن نقول اليوم إنّ "كانديد" تكاد تكون العمل الأدبي، بل الفلسفي حتى، الذي لا يزال قابلاً لكل أنواع التفسير، وتحديداً في ضوء الأزمان التي تُفَسّر فيها، وتبعاً للعين التي يُنظر بها إليها. وهذا ما يجعلها أشبه بـ"الرواية الحرباء"، على الأقل حسب ما وصفها به ذات مرة أحد كبار النقاد الفرنسيين في القرن التالي لصدورها، في معرض الثناء عليها لا الشجب.
ومع هذا، حين أصدرها فولتير (الاسم المستعار لفرانسوا ماري أرويه الذي عاش بين 1694 و1778) للمرة الأولى في عام 1759، تحت عنوان "كانديد" أو "التفاؤل" وكان قد تجاوز الخامسة والستين من عمره، نشرها من دون أن يُشار فيها إلى اسم المؤلف، في حقبة من التاريخ الأوروبي كانت تعيش اضطرابات وانتشار أوبئة وحروباً، أبرزها تلك المسماة حرب الأعوام السبعة، ناهيك بالزلزال المريع الذي ضرب لشبونة أوائل عام 1750، مرخياً ظلّه الثقيل على أوروبا كلها، ونعرف أن "كانديد" طُبعت عشرين طبعة خلال السنوات المتبقية من حياة مؤلفها، لتعود وتحمل اسمه بعد ذلك.

في مصاف المدن الفاضلة إنما

أشرنا قبل سطور إلى أن هذه الرواية يمكن قراءتها بأشكال متنوِّعة، بيد أن كل تلك القراءات تُجمع على قوة حسّ السخرية الذي يغمرها، ويجعل قراءتها متعة حتى بالنسبة إلى الذين يفضّلون عادة أن لا يقرؤوها بين السطور، بل عند الدرجة الأولى من المعنى. أي حيث تحاول الرواية أن تجيب عن السؤال نفسه الذي طرحه المفكرون والفلاسفة المعنيون بشؤون البلاد والعباد على أنفسهم: ما العالم الأفضل بين العوالم الممكنة؟
والحقيقة، أنه إذا كان هذا السؤال يعد بأن تكون الرواية منتمية إلى الكتابات اليوتوبية، الخيالية، أي التي ما انفكت تصدر منذ "جمهورية" أفلاطون وصولاً إلى خائبي الأمل من الشيوعية في القرن العشرين (من "عالم جديد شجاع" لهاكسلي إلى "1984" لجورج أورويل، مروراً بالروسي المنشق زامياتين صاحب "نحن") مروراً بأصحاب "المدن الفاضلة" من بيكون إلى الفارابي إلى توماسّو كامبانيلا إلى ويليام موريس، واللائحة تطول طبعاً. وهي قائمة يحلو لكثر من المؤرخين أن يضموا "كانديد" إليها.
لكن، رواية فولتير هذه قد تكون متفرّدة وعلى حدة بين كل هذه الأعمال، إذ تعارضها جميعاً بكون جوابها عن السؤال المشترك المطروح هو وبكل بساطة: إن أفضل العوالم الممكنة هو بالتأكيد هذا العالم الذي نعيش فيه. أجل ذلك هو الاختلاف الأساسي بين "كانديد" وكل روايات اليوتوبيا الأخرى، وإلا لماذا جعل فولتير عنوانها "كانديد" أو "التفاؤل". إنها رواية متفائلة منذ سطورها الأولى وغلافها. لكن هل هي حقاً كذلك؟ لنرى!

لولا تلك القبلة

كانديد، الذي يعير اسمه عنواناً للرواية، شابٌ بسيطٌ يعيش في قصر البارون ثاندر- تن- ترونخ في مقاطعة وستفاليا. وفي ذلك القصر المنيف يحاول أستاذه الفيلسوف بانغلوس أن يعلم فتانا فلسفة الفيلسوف الألماني لايبنتز الرائجة، وهي فلسفة يرى المعلم أنها تستند إلى مبدأ التفاؤل الذي يعرف كيف يتجاوز كل الصعوبات والمحن. ويرى هذا المبدأ الذي لا يُقهر أن العالم الذي نعيش فيه وننتظم تبعاً لأنظمته هو أفضل عالم وُجد منذ بداية الحياة الاجتماعية، وليس ثمة أي سبب يدفع إلى محاولة تغييره. كل ما علينا هو أن نبتسم له ونرضى به فنكون من أسعد السعداء.
يتلقى كانديد تعاليم معلمه سعيداً مطمئناً، وعلى الأقل حتى اليوم الذي يحاول أن يطبع فيه قبلة بريئه على فم الصبية كونيغوند ابنة سيد القصر، فلا يكون من أمر هذا الأخير إلا أن يطرده شرّ طردة. غير أن ابتعاد كانديد عن ذلك العيش الرغيد لن يبدّل من تعامله المتفائل مع الحياة، حتى وإن وجد نفسه شريداً يجوب العالم طولاً وعرضاً من جراء تلك القبلة.
خلال ذلك التجوّل الذي يبدأ من لشبونة وينتقل منها إلى القارة الأميركية مرور بالإلدورادو، التي سنعود إليها بعد سطور، وبوردو الفرنسية والبندقية الإيطالية والقسطنطينية. خلال ذلك التجوّل لا تتوقف المصائب عن الوقوع على كاهل فتانا الذي ينتقل من بؤس إلى بؤس ومن فاقة إلى فاقة، إنما دائماً من دون أن يترك لأيّ من تلك المصائب إمكانية النيل منه، ومن يقينه بأن ما يحصل له ليس في الإمكان أن يكون ثمة ما هو أفضل منه.
صحيحٌ، أنّ العالم كما يختبره كانديد المتجوِّل فيه برفقة خادمه الخاص كاكامبو عالم بؤس وفاقة وألم تخلت عنه العناية الإلهية، لكن هذا لا يهم. فلكل شيء سببه، وكل شيء سينتهي خير نهاية. والدليل إلدورادو التي يصل إليها صاحبنا ذات يوم ليجدها مستجيبة لتوقعاته التفاؤلية. إلدورادو فردوس أرضيّ يصل إليه كانديد من دون تخطيط ومن دون توقّع. فجأة وجد نفسه وخادمه يدخلان مدينة الحلم الذهبي المحاطة بجبال تخفيها عن عيون الطامعين، ما يحفظ لها ثرواتها ونقاءها. فهل تراها ستكشف لكانديد خطل نظرية معلمه المستقاة من لايبنتز، والقائلة إن كل شيء في العالم على خير ما يكون.
إن الثراء هنا فاحش إلى درجة أن كلّ بحصة مرمية في الطريق ليست سوى حجر كريم. والترف ماثل في أدق تفاصيل العيش وثنايا الثياب. ثمة هنا ما يكفي الجميع، ولذا لا يتطلع أحد إلى ما عند الآخرين، بالتالي يستتب السلام والوئام وتخلو المنطقة من القضاة والسجون، إذ لا جريمة هنا فلا حاجة إليهم بالتالي. والأهم من هذا أن ليس ثمة في إلدورادو تطلع للوصول إلى السلطة، فالملك عاهل طيّب يتحدّث إليه الناس ببساطة ويتعامل هو معهم بأريحية.

هل نختبئ لنعيش سعداء؟

من الواضح هنا أن فولتير يستعيد أسطورة تلك المدينة التي اكتشفها الأوروبيون منذ القرن السادس عشر في أميركا الجنوبية، وعزز السير والتر رالي الإيمان بوجودها لاحقاً ما جعلها قبلة تطلعات الأوروبيين، باعتبارها المدينة الغنية المثالية. لكن فولتير لا يتعامل معها هنا في "كانديد" على ذلك النحو، بل بصيغة من الواضح أن غايتها تأكيد استحالة ذلك "الحلم". فالفيلسوف الفرنسي يبالغ في الحديث عن إلدورادو هذه إلى درجة تجعل من غير المنطقي التصديق بوجودها. إنه يجعل منها، في نظر بطله، "مملكة المستحيل" بصورة نهائية، وبالتحديد لأن هذه المملكة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون في متناول الإنسان، فهي أكثر كمالاً من أن تكون منطقية.
ومن هنا، لن يدهشنا أن كانديد وخادمه سرعان ما يبديان بؤسهما إزاء كل ما يريانه هنا، فهو في نهاية الأمر التفاؤل نفسه، بشكل لا يعود معه من مكان للتفاؤل. وهكذا إذ يشعر صاحبانا أنهما بائسان حقّاً وللمرة الأولى في تجوّلهما، يقرران أنهما يفضلان أن يكونا بائسين متساويين في البؤس مع بقية البشر على أن يكونا من الثراء بحيث يكونان متفردين. غير أن لسان حالهما سيكون أكثر منطقية: "سنعود إلى عالمنا لنعيش مع الآخرين، لكننا سنأخذ معنا حمولة 12 خروفاً من حصى إلدورادو، فنكون بذلك أغنى من الملوك جميعاً". سيفعلان لكنهما سيضيّعان الحصى بالتأكيد، بيد أنهما سيكونان تعلّما العيش بسعادة في العالم غير السعيد: عبر الاهتمام بشؤونهما الخاصة، والابتعاد قدر الإمكان عن مشكلات الآخرين. ويتساءلان في نهاية الأمر حائرين: إذن هل علينا أن نختبئ كي نعيش سعداء؟ ويقرران أن هذا حلم بسيط، لكنه على قياسهما كبشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن "اندبندنت عربية" 14 أيار 2020

عرض مقالات: