من الصعب التكلم عن مسالة ( العدالة الاجتماعية)، التي تقرالحق الأساسي للإنسان بان يتمتع بكامل حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بمعزل عن تطبيقات لأركانها المتمثلة بالاتي:

 النظام الاقتصادي السياسي السائد في الدولة، وتوجهات البرنامج الحكومي إزاء التنمية الوطنية المستدامة، ومفهوم المواطنة والوطنية ومسألة الهوية، المساواة وتكافؤ الفرص، والحريات المدنية والسياسية، والديمقراطية، وذلك لارتباط الوثيق بين هذه المفاهيم ومصطلح العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية.

 هناك مفاهيم وتعاريف عديدة لمصطلح العدالة الاجتماعية تعتمد على الفكرالايديولوجي والعلمي لتفسيره وتطبيقه. فعلى سبيل المثال، يستند فكرالاقتصاد السياسي الماركسي في تفسيرالعدالة الاقتصادية التي هي الجزء المهم والمتمم للعدالة الاجتماعية، على ( المدخلات والمخرجات ـ الانتاج)، وفق أسس: قوى الانتاج ( العمل)، ملكية وسائل الانتاج ( الملكية الاجتماعية العامة)، وعلاقات الانتاج ( توزيع عادل للموارد والخدمات الانتاجية بين طبقات وفئات المجتمع).

 اما فكرالاقتصاد السياسي الراسمالي، فهوقائم على: قوى الانتاج (رأس المال)، ملكية وسائل الإنتاج (الخاصة)، وعلاقات الإانتاج ( توزيع متفاوت للموارد والخدمات لصالح الرأسمالية).

: نحاول في هذه الورقة وباختصار شديد ( من دون الدخول في التفاصيل) معرفة مدى توافق تطبيقات هذه المفاهيم مع مفهوم العدالة الاقتصادية والاجتماعية في العراق اليوم، وكمايلي

1. النظام الاقتصادي

 كما هو معروف فأن الايديولوجية المتبعة والتي فرضها المحتل الأمريكي عند احتلال العراق في عام 2003، تستند على ايديولوجية اللبراليين الجدد، أو ما يسمى ( إجماع واشنطن)، التي تعتمد على:

 نمودج اقتصاد السوق الحر، والاصلاح المالي والاداري للمؤسسات الحكومية على اسس الخصخصة، والاعتماد على توجيهات ونصائح المؤسسات المالية الدولية الرأسمالية ( الصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية). مما يترتب عليه انتقال الادارة الرئيسية للاقتصاد الوطني الى ايدي القطاع الخاص بدون أية ضوابط، والعمل بآليات السوق وإطلاق قوى العرض والطلب وسوء استخدام مبدأ المنافسة، وفي نهاية المطاف تمكين الفاسدين من السيطرة على مقدرات الانتاج الوطني، وذلك على حساب إضعاف أو إبعاد اداء القطاع الحكومي والتعاوني وحتى التطوعي في عملية التنمية الوطنية المستدامة، بدلا من الاعتماد على نظام اقتصادي متوازن وعادل للجميع. لقد أدى تطبيق هذا النوذج الى الاتي:

 أ ـ تفاقم البطالة في قوة العمل بين ( 25 ـ 30 )% ونسبة مستوى خط الفقر 20%، اي نحو( 7 ) سبعة ملايين مواطن من سكان العراق البالغ (38,8 ) مليون نسمة، بحسب ( وزارة التخطيط)؛

ب ـ استشراء نظام الفساد المالي والاداري ونهب ثروات البلاد وتبديد المال العام، والصراع المحموم على السلطة والنفوذ بين المتنافسين؛

ج ـ التفاوت الكبير في مستويات الدخل وتراكم الثروات بين الافراد وبين مناطق البلاد، مما ترك أثاراً سلبية كبيرة وعميقة على االطبقات الاجتماعية، من خلال نمو:

ـ فئة ( طفيلية) موالية للحكومات المتعاقبة، وتشكل قاعدتها الاجتماعية، وهي قوة مناهضة للمنتجين الفعليين للثروة.

 ـ وظهور فئة اخرى ( مافيا)  متخصصة في سرقة النفط وبيعه من خلال قنوات متعددة، تتعاطي مع العمولات والرشاوي مع الشركات العاملة في العراق خاصة في مجال النفط والتجارة الخارجية ومتاجرة بالاسلحة والمخدرات وغيرها.

ـ نشوء شرائح البرجوازية لصالح الجناح الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري، مما يدفع بعملية التراكم الراسمالي والمتعلق بالملكية العقارية اوبالتجارة الداخلية، بدلا عن تحقيق تراكم لرأسمال القائم على الانتاج.

د ـ انسياب نسبة متعاضمة من الدخل القومي الى الخارج من خلال قنوات التجارة الخارجية والفساد وغسيل الاموال، وتوزيع غير عادل للدخل القومي بين طبقات وفئات المجتمع. كما أبقى البلاد سوقا مفتوحة للسلع الصناعية والزراعية والخدمات الاجنبية، من دون اية ضوابط أو رقيب عليها، اضافة الى الهبوط في التنمية وانخفاض الدخول الحقيقية للجماهير الكادحة، والتفاوت في توزيع الثروة، مما عمق من ضعف الطبقة المتوسطة المنتجة الرأسمالية الصناعية المحلية؛

ه ـ بقاء الصفة الريعية للاقتصاد، وهذا يعني تبعية الدولة للمداخيل الناتجة من عائدات صادرات النفط الخام بالدرجة الاساسية، والذي يساهم ما نسبته ( 92% ) من إجمالي إيرادات الموازنة العامة، و(63,7%) من ناتج المحلي الاجمالي، وبالتالي فانه يبقى رهين تقلبات سعره والطلب عليه في السوق، بدلا من النهوض بالقطاعات الانتاجية؛

وـ  أدت هذه الحالة الى استقطاب طبقي لصالح الفيئات المهيمنة على الحكم، وانعكاس ذلك على الاختلال في تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية.

2. مبدأ المواطنة والوطنية

اسس الاحتلال الامريكي نظاما سياسيا قائما على المحاصصة المقيتة وفق الطائفية السياسية والمذهبية والاثنية من اجل السلطة والمال والنفوذ. وأسس كذلك لبزوغ  سياسات الهوية والتفرقة على اسس دينية وطائفية واثنية بين مكونات الشعب العراقي، بدلا من مفهوم المواطنة والتساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ووفق مبدأ العدالة التي هي من القواعد اللازمة لعيش مشترك يجمع افرادا احرارا ومتساوين.

3. المساواة وتكافؤ الفرص

المساواة ركن أساسي  في العدالة الاجتماعية. وهي تستند على الشروط التالية:

عدم التمييز بين المواطنين لاي سبب كان، وتوفير الفرص بشكل عادل، وتمكين الافراد من الاستفادة من هذه الفرص ومن التنافس على قدم وساق، مع الأخذ بنظرما يمكن اعتباره فروقات مقبولة اجتماعيا. لم تطبق هذه المفاهيم  بالشكل الصحيح على ارض الواقع في العراق اليوم رغم ورودها في المواد الدستورية!.

4. الديمقراطية

لم تمارس الديمقراطية في الحياة اليومية وتمّ اختزالها في الانتخابات المزورة في جميع مراحلها. وتشكيل الحكومات بعد الانتخابات على اسس نظام المحاصصة البغيض، وعدم اقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة، وابعاد دور المجتمع المدني للمشاركة في عملية صنع القرار السياسي والرقابة على اداء الحكومي في البلاد. غياب الادارة الرشيدة التي تستند اركانها على:

 الديمقراطية الحقيقية والشفافية والنزاهة والمسؤولية وممارستها في الحياة اليومية، وإفصاح المعلومات عن أداء المؤسسات الحكومية، والدور الرقابي الشعبي والهيئات المختصة في محاربة الفساد المالى والاداري المستشري في المفاصل الادارية والحزبية.

 5. الحريات المدنية والسياسية

هناك مجموعة حريات مدنية وسياسية اساسية لابد ان يتمتع بها المواطن لتحقيق العدالة، وهي ايضا من مقومات التساوي في الإمكانيات التي تساهم في تاسيس العدالة. لم تمارس ذلك في الحياة اليومية بالشفافية والمصداقية العاليتين، ولأسباب عديدة: محدودية النشاطات الاقتصادية، وتقزيم الحريات الاجتماعية والفكرية، وكبت الحريات السياسية والعامة، وهيمنة الفكر الديني

(الاسلام السياسي)، وسيطرة بيروقراطية على إدارة الحكم اتصفت عموما بالجهل والفساد.

6. التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة بابعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية مجتمعية

 ان التنمية بأشكالها المختلفة هي إحدى وظائف الأساسية للدولة العادلة الحديثة. وقد اخفقت الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال في تحقيق التنمية الوطنية القائمة على العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولأسباب كثيرة (من دون الدخول في التفاصيل)، وكالاتي:

تكريس سياسات التهميش والإقصاء والفقر واللامساواة، وغياب الإرادة السياسية والرؤى الواضحة والاستراتيجة الشفافة والمعللة للتنمية؛

اخفاق في السياسة الضريبية وتوفير نظام ضمان اجتماعي كامل، ادى إلى عدم تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الاساسية الضرورية للمواطنين.

عدم اشباع الحاجات الملحة والضرورية والمتنامية للمواطنين بسبب عدم  الاعتماد على سياسة الاقتصاد الانتاجي، فهو وحده القادرعلى رفع الانتاج وانتاجية العمل، بما يساعد على رفع مستويات المعيشة وتوفيرالسلع والخدمات للمواطنين وتخفيف حدة البطالة؛

استمرار نظام الفساد المالي والاداري على المستويات الادارية والحزبية، من دون اتخاذ الاجراءات الحاسمة ضده؛

خلل في عملية متابعة الاداء الاداري والمالي والتنفيذي لمشروعات الموازنة العامة بشقيها التشغيلي والاستثماري؛

سوء سياسات اقتصادية واجتماعية شاملة للجميع ادت الى تفاقم البطالة وعدم تامين فرص عمل اللائق للجميع، والقضاء على الفقر، وتقليل الفوارق الطبقية.

 7. العمل السياسي والفكري

ان الافكار والمفاهيم المشارة اليها سابقا، لا تعني كثيرا اذا ظلت أفكارا فلسفية، لا بد ان تقترن بالعمل السياسي والفكري واضح المعالم، من أجل وضع الانظمة السياسية وبأهداف وبرامج واضحة وشفافة وآليات فعالة تترجم نفسها في التطبيق والممارسة الاجتماعية، وطرح تصورات نظرية وعملية للعدالة الاجتماعية في المفهوم السياسي والاقتصادي والحقوق الاجتماعي.

 8. استنتاج

 يتيح العرض السابق الاستنتاج، بأن ترجمة وتطبيق هذه المفاهيم على أرض الواقع في العراق اليوم اصبحت من الصعوبة بمكان وخاصة في ظل أزمة النظام السياسي والاقتصادي والاداري للحكومات المتعاقبة، وغياب الاستراتيجية والسياسات الاقتصادية الحكومية الواضحة، ودخول المجتمع العراقي في دوامة وارباك واضحين، وكذلك الحالة العامة للدولة العراقية التي عجزت عن اداء وظائفها الاساسية في إنهاء الفساد السياسي والمالي والاداري واستعادة الوطنية العراقية والانتقال الى دولة المواطنة، منذ الاحتلال والى اليوم. لن يتغيرهذا الوضع مالم يجري التغيير والاصلاح الحقيقيين في بنية  النظام والمؤسسات الحكومية والادارية المتمثلة بالسلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية) وحتى السلطة الرابعة (الاعلام)، واعتبار العدالة الاجتماعية والاقتصادية مسؤولية اجتماعية على الدولة آزاء المجتمع ومواطنيها من خلال:

  التوزيع العادل للموارد والدخول كالأجور والرواتب والثروة، ونظام عادل لتوزيع الأعباء  الضريبية، وتساوي الفرص الاقتصادية من دعم وتقديم الخدمات العامة الصحية والتعليمية والضمان الاجتماعي والدعم السلعي والاحتياجات الضرورية للمواطنين من العمل والمشرب والمسكن، وخاصة للعاطلين ومحدودي الدخل والفقراء وللفئات الأشد فقرا، باعتبار ذلك حق طبيعي للفرد بأن يتمتع به ويتقاسم الموارد والخدمات مع الدولة بشكل عادل، واحترام الحقوق والحريات والمساواة بين المواطنين، وممارسة الديمقراطية في الحياة اليومية، وبث روح المواطنة والوطنية بين اطياف ومكونات الشعب العراقي.

 مساهمة انتفاضة تشرين الأول

 ختاما، بغية تحقيق طموحات واهداف الشعب العراقي والحصول على كامل حقوقه المشروعة، أنطلقت الجماهيرالعراقية، بكافة اطيافها ومكوناتها وباسلوب سلمي وحضاري، شرارة إنتفاضتها المجيدة في الأول من تشرين الأول/ اكتوبر2019  والمستمرة حتى الان. شملت الانتفاضة معظم مناطق العراق وشهدت تعاطفا وتضامنا باشكال مختلفة من الشعب الكردستاني.

 لقد تبلورت مطالب الانتفاضة مع مرور الوقت، ويمكن إجمالها بالآتي:

تحسين الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها الشعب، وبعملية التغيير والاصلاح الشاملين في بنية النظام القائم وبرحيل أركانه، وإنهاء الفساد والعمل على إسترداد الأموال العراقية المهربة، وتشكيل حكومة وطنية انتقالية، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في أقرب وقت ممكن، وفي ظل قانون انتخابي عادل ونزيه وشفاف واجواء ديمقراطية وتحت إشراف المنظمات الدولية، وإحالة القتلة والمجرمين المشاركين في ضحايا الإنتفاضة من الشهداء والجرحى والمعاقين والمعرضين للاعتقال والاختطاف والتعذيب الى القضاء، لينالوا العقاب الصارم بحقهم، وانهاء هيمنة المليشيات والفصائل المسلحة التي تقوض سلطة الدولة والحفاظ على سيادتها، بغية وضع العراق دولة وحكومة على الطريق الصحيح انطلاقا من مسؤوليتها المجتمعية والانسانية. وترجمة وتطبيق المفاهيم التي أشرنا الى بعضها فيما تقدم من خلال برامجها وخططتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف تحقيق تنمية وطنية شاملة مستدامة ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية وبيئية، التي تعتبر حجر الزاوية لتحقيق فكرة العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي والتقدم والازدهارفي ظل دولة مدنية ديمقراطية تقراسلوب تداول السلطة، وتضمن الحياة الكريمة والسعيدة والآمنة والمستقرة لأبناء هذا الجيل والاجيال القادمة، وإيصال البلاد الى برالأمان.

 وبعكس ذلك فإن ترك هذه المسالة ودون الاهتمام والمعالجة الجدية لها، ستؤدي بلا شك الى تفاقم حدة الصراع الطبقي في المجتمع، وزيادة حجم فجوتي الثروة والدخل إتساعا، وتجزئة المجتمع الى فئات اجتماعية وثقافية متنازعة، الأمرالذي يتسبب في تقويض شرعية نظام الحكم، وتشجيع التطرف، وشيوع الجريمة، وزعزعة الامن والاستقرار والسلم الاجتماعي، وخلاف ذلك سيبقى العراق دولة فاشلة بكل معنى الكلمة وفي مختلف مفاصل الحياة.

 

عرض مقالات: