مر عام على استلام الجنرال السابق واليميني المتطرف جايير بولسونارو رئاسة الجمهورية في البرازيل. ويتلمس المتابع طبيعة العام المنقضي من العناوين التي حملتها وسائل الاعلام لهذا العام: تهديدات، العفو عن افراد الشرطة والجيش المدانين بجرائم جنائية، رد الاعتبار لممارسات حقبة الدكتاتورية العسكرية، المزيد من مبيعات الأسلحة، ومراوحة اقتصادية. وبينت الإحصاءات التي نشرها الاتحاد الوطني للصحفيين في البرازيل مؤخرًا إحصائية تفيد بأن بولسونارو شن ما لا يقل عن 10 هجمات شهريًا على الصحفيين المهنيين ووسائل الإعلام والصحافة عمومًا في السنة الأولى من رئاسته. ويجري العمل لمنح أساليب التعذيب الشرعية مرة أخرى، كما كان عليه الحال خلال الدكتاتورية العسكرية.
وبمناسبة اعياد الميلاد، أصدر الرئيس اليميني المتطرف عفوا عن منتسبي الأمن الذين أدينوا بجرائم قتل. ومن الغريب جدا، أن العفو يشمل أيضًا الجرائم المرتكبة خارج الخدمة، والتي ارتكبت لمواجهة خطر واجه القاتل، او طرف ثالث، وبحجة الدفاع عن النفس. والعفو بمناسبة عيد الميلاد هو تقليد وامتياز رئاسي في البرازيل. وفي هذا العام تم استخدامه بشكل شبه حصري لصالح ضباط الشرطة والأفراد العسكريين ورجال الإطفاء. ومن المعروف ان خدمة الإطفاء في البرازيل تعد جزءا من القوات العسكرية على غرارالنموذج الفرنسي.
وفي وقت سابق حاولت الحكومة تمرير مشروع قانون يضمن إفلات ضباط الشرطة من العقاب على الأفعال المرتكبة بسبب "القلق المبرر، أو المفاجأة، أو مشاعر الخوف العنيفة". وأفشل البرلمان محاولة الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، ارتفع عدد الوفيات جراء ممارسات الشرطة وقوات الجيش القمعية في سياق ما يسمى "عمليات لضمان القانون والنظام" المتطرفة خلال عام 2019. وارتفعت مبيعات الأسلحة النارية للمدنيين. وبحلول تشرين الثاني الفائت، زاد عدد الأسلحة المسجلة ابنسبة 48 في المائة. وحث بولسونارو المواطنين على تسليح أنفسهم، وتقليل العقبات البيروقراطية التي تحول دون ذلك.
وفي إطار هذه السياسة المتطرفة، تم اتخاذ قرار بحل وكالة مناهضة التعذيب، التي أنشأتها الرئيسة ديلما روسيف قبل ست سنوات وكانت مسؤولة عن الإشراف على السجون ومراكز الطب النفسي ومراكز الاحتجاز. ولهذا السبب، وبخت الأمم المتحدة البرازيل، وطالبت بعدم خرق المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب. وذهب بولسونارو خطوة ابعد عندما هدد باستخدام اساليب تعذيب سيئة كانت معروفة في عهد الدكتاتورية العسكرية، عند التحقيق في قضايا الفساد.
وترافق تولي الرئيس مهام منصبه مع انكشاف تورط عائلته بممارسات اجرامية، اذ بدأت السلطات القضائية التحقيق مع الاابن الاكبر للرئيس فلافيو بسبب تعاملات مالية مشبوهة. تبع ذلك تفتيش مركز تجاري كبير لبيع الحلوى، في ريو دي جانيرو عائدا له. ويرى المدعي العام ان هناك أدلة على استخدام المركز التجاري لتغطية عمليات غسيل الاموال. وكان السيناتور الحالي قد حقق نجاحات في قطاع العقارات، وخلال عمله عضوا في برلمان ولاية ريو دي جانيرو، لاكثر من عشر سنوات، اتهم بالتلاعب بالاموال العامة.
وإن جزءًا ثابتًا من رواتب موظفي مكتبه تعود لذوي بولسونارو، بينما هناك موظفون على الورق فقط، اي فضائيون. وظاهرة استقطاع نسب من رواتب العاملين معروف في عالم السياسة في البرازيل. ويقوم سائق اابن الرئيس ويده اليمنى والشرطي السابق فابريسيو دي كويروز بإدارة الأموال المستحصلة. وقام اابن الرئيس والنائب الحالي، وابناء على نصيحة سائقه بتوظيف اعضاء منظمة اجرامية تعرف باسم "مكتب الجريمة" تنشط في ريو دي جانيرو. وعلى سبيل المثال لا الحصر قام ابن الرئيس بتوظيف زوجة وام القاتل المحترف والمختفي عن الانظار أدريانو ماغالهايس دا نوبريغا، والذي يعد رأس مكتب الجريمة. وتقوم النيابة العامة بالتحقيق في جرائم غسيل اموال عبر حسابات مصرفية تابعة لـ "مكتب الجريمة"، المتهم بين امور اخرى بجريمة اغتيال عضو مجلس مدينة ريو دي جانيرو الماركسية مارييل فرانكو وسائقها في15 اذار 2018، وان منفذ الجريمة هو جار رئيس الجمهورية الحالي في حي سكني للاثرياء في ريو دي جانيرو. وملف الجريمة لم يغلق حتى الآن. وكثير مما يحدث باعتباره صدفة تمتد خيوطها الى دائرة الرئيس الضيقة.
انحدار سريع
لم يخب نجم الرئيس سريعا بسبب هذه الفضائح فقط. فالرئيس الديماغوجي والفاشي هو اليوم اقل رئاسة من ايامه الاولى، اليمين المحيط به منقسم على نفسه بين مؤيدي بولسونارو، وأنصار منافسيه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وان بدت بعيدة نسبيا. فها هو حاكم ولاية ساو باولو غواو دوريا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، حزب الرئيس المؤقت السابق تامر، الذي قاد الانقلاب البرلماني ضد رئيسة الجمهورية المنتخبة ديمقراطيا اليسارية دليما روسيف، ينسق مع نائب الرئيس هاميلتون موراو ووزير العدل سيرغيو مورو يعملون على مشروعهم الخاص. لذا يريد الرئيس بواسطة "التحالف من أجل البرازيل" تاسيس حزب خاص لعائلته الكبيرة التي تعمل كمافيا سياسية بوضوح تام.
سياسة خارجية عدوانية
لقد أزعج خطاب الرئيس في الجمعية العامة للامم المتحدة، في ايلول الفائت، الرأي العام العالمي؛ فبينما تشتعل النيران في منطقة الأمازون، ينفي الرئيس ان منطقة الغابات الاستوائية في خطر وينفي ما متفق عليه عالميا بان المنطقة تمثل "رئة العالم". وتقوم الدبلوماسية البرازيلية بزعامة وزير الخارجية إرنستو أرايغو في رحلة ايديولوجية. والمعروف ان الوزير البرازيلي ينفي وجود تبدل مناخي، ويتحدث عن مؤامرة "ماركسية ثقافية" عالمية.
وبدلا من التنسيق الأقليمي مع فنزويلا وكوبا في عهد حكومات اليسار، يحل تحالف ضد حكومتي البلدين، تلعب به البرازيل دورا محوريا. ورحبت البرازيل بالانقلاب ضد الرئيس البوليفي اليساري، وبالتحول الحكومي اليميني في اورغواي. ويهدد الخطاب العدائي العلاقة الوثيقة تاريخياً بين البرازيل والأرجنتين المجاورة، حيث عاد تحالف اليسار بعد دورة رئاسية واحدة الى السلطة بعد فوز مرشحه ألبرتو فرنانديز بانتخابات الرئاسة التي جرت في أواخر تشرين الاول الفائت.
ويعتمد شمال البرازيل على الإمداد بالكهرباء الفنزويلي، وفي السابق، استفادت البرازيل من واردات الطاقة الرخيصة من فنزويلا التي توقفت الآن. وسحب قادة الجيش البرازيلي تهديدات بولسونارو بالعمل العسكري ضد جارتها الشمالية، لادراكهم الضعف الاستراتيجي العسكري، الذي يعانوه في حوض الأمازون.
ويواجه تحالف ميركوسور الإقليمي أزمة، على الرغم من احتمال التصديق على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي. وقبيل الانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، والانتصار المتوقع لمرشح تحالف اليسار ألبرتو فرنانديز، وهو ما تحقق لاحقا، تراوحت تهديدات بولسونارو بين استبعاد الأرجنتين والانهيار التام للتحالف. ولكن وزير خارجية البرازيل عاد وقلل من اهمية تصريحات رئيسه.
وبعد أن أعلن بولسونارو بوضوح عن رأيه في رئيس الجمهورية اليساري في الارجنتين، ولم يُبد أي اهتمام بحضور حفل تنصيبه، ظهرت مع بداية العام الجديد المزيد من التصريحات المهادنة، وعبرت البرازيل عن ترحيبها بالرئيس الأرجنتيني في البرازيل، في حال عزمه على زيارة البرازيل. ويأمل بولسونارو ان تشترك الأرجنتين في التوصل إلى اتفاق ناجح مع الاتحاد الأوروبي
وشمل عدم استقرار السياسة الامريكية حكومة حلفائها الجدد في البرازيل. لقد تلقت الاخيرة تهديدا مفاجئا من الولايات المتحدة بزيادة التعريفات الكمركية على الصلب والألومنيوم البرازيليين، وعاد ترامب ليسحبها بعد فترة وجيزة. ويرسل بولسونارو تصريحات حب شخصية إلى نظيره وشبيهه الأمريكي دونالد ترامب، ولكن نرجسي البيت لأبيض لا يردها باحسن منها.
على خطى الدكتاتورية العسكرية
وعلى صعيد السياسة الداخلية يستمر نهج القمع ويتعزز في قطاعي التعليم والعلوم والثقافة. ويستند هذا النهج إلى ارضية منظومة فكرية دينية قومية عنصرية والحرب الثقافية، ليشكل اساسا للدولة المستبدة.
ولأول مرة منذ نهاية الدكتاتورية العسكرية (1964-1985)، تحكم البرازيل حكومة مدنية عسكرية مرة أخرى. والجنرالات السابقين يحتلون المفاصل الرئيسة في ادارة البلاد. وحتى أثناء حملة بولسونارو الانتخابية كانت الخيوط الخفية بايدي العسكر. وترى رئيسة البلاد السابقة ديلما روسيف التي اطيح بها بانقلاب برلماني في عام 2016، أن بولسونارو ساحر متدرب استطاع الالتفاف على يمين الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي قاد الانقلاب البرلماني، وحلم بالوصول الى السلطة بعد انتخابات 2018، لكنه مهد الطريق في الواقع لليمين المتطرف. وحذرت روسيف قبيل بداية العام الجديد قائلةً: "إننا نمر بإحدى اللحظات الأكثر خطورة منذ التحول الديمقراطي". واضافت ان "فاشية بولسونارو الجديدة واضحة"، لكن لا ينبغي لأحد أن ينسى أن "أولوية هذه الحكومة هي الليبرالية الجديدة".
خراب اقتصادي
وتحت قيادة وزير الشؤون الاقتصادية في حكومة بولسونارو باولو غويديس، وهو مصرفي استثماري يستلهم انموذج الليبرالي الجديد، الذي عده اليمين رائدا في تشيلي، لكنه يواجه اليوم واحدة من اوسع وأعمق انتفاضات الشعب التشيلي؛ يستمر تعزيز السياسة الاقتصادية التي بدأها رئيس الانقلاب المؤقت ميشيل تامر من خلال تحرير سوق العمل من رقابة الدولة والحركة النقابية، وتفتح الابواب لمنافسة رأسمالية منفلتة على حساب القطاع العام. واثبت الواقع ان سياسة هدم المكتسبات الاجتماعية وتحديد الانفاق العام، وخفض المعونات والدعم الاجتماعي، مثَّل كابحا للتطور الاقتصادي، وانتاجية العمل في ركود. والعمالة غير المستقرة تصل الى ارقام قياسية. ولا تزال البطالة مرتفعة. كما ارتفعت الأسعار، وخاصة اللحوم والطاقة أصبحت أكثر تكلفة. وحققت البنوك البرازيلية أرباحًا قياسية في عام 2019 على الرغم من الانكماش الاقتصادي المستمر. وما يقرب من ثلثي الأسر مثقلة بالديون. والقطاع المالي يفرك يديه فرحا، فمع اعتماد "إصلاح" نظام المعاشات التقاعدية في تشرين الاول، تم تقديم خطة لضمان تقاعدي ممول وفق النماذج المعمول بها في البلدان الرأسمالية المتطورة، وبالتالي سينشأ تباين اجتماعي حاد حتى بين المتقاعدين.
مقاومة شعبية متصاعدة
كانت قوى اليسار والحركات الاجتماعية وعموم المدافعين عن الشرعية الديمقراطية قد بدأوا حركة احتجاجات واضرابات متصاعدة ضد الانقلاب البرلماني الذي أطاح برئيسة البلاد الشرعية دليما روسيف في عام 2016، وضد تهم الفساد غير المستندة الى ادلة ملموسة، والموجهة الى زعيم حزب العمل والرئيس الأسبق سلفيا دي لولا. ومنذ تسلم الرئيس البرازيلي مهام منصبة تتصاعد الاحتجاجات الجماهيرية ضده باعتباره أحد رموز الفاشية الجديدة في البلاد. وقد دخلت هذه الاحتجاجات مرحلة جديدة منذ نهاية آذار الفائت، وهي في اتساع وتصاعد. وجاءت موجة الاحتجاج الجديدة، والتي شملت جميع انحاء البرازيل، مستنكرة الهجوم الايديولوجي على قطاع التعليم والثقافة
وفي 30 أيار، خرج مئات الآلاف من التلاميذ والطلبة والمدرسين واساتذة الجامعات، ضد اجراءات التقشف القسرية التي ينفذها الرئيس والتي تستهدف التخصيصات المالية لقطاعي التعليم والثقافة. وغطت الحركة الاحتجاجية 190 مدينة بضمنها مدن البلاد الرئيسة. وتحت شعار "دفاعا عن التعليم"، و"البرازيل تتحد من أجل التعليم"، طالب المحتجون بـالغاء قرار تخفيض 30 في المائة من التخصيصات المالية للتعليم. وقد لبى المحتجون بذلك دعوات اتحاد الطلبة والنقابات العمالية والمهنية والحركات الاجتماعية. وتمثل الحركة الاحتجاجية اهم ساحات الصراع بين قوى اليسار والديمقراطية، وقوى اليمين المتطرف والفاشيين الذين يعملون على اعادة البرازيل الى سنوات سلطة اليمين الفاشي والعسكر. وكانت الحكومة قد اقرت في آذار الفائت تخفيضات فورية في الموازنة تصل قيمها الى 6.6 مليار يورو منها، 1.7 مليار يورو، أي 25 في المائة في قطاع التعليم. وتشمل التخفيضات بناء وتشغيل رياض الأطفال والمدارس، والتعليم الفني، وبرامج محو الأمية، والزمالات البحثية خصوصا للطلبة السود، والمواد التعليمية، والنقل المدرسي، والصناديق الإدارية في الجامعات الفيدرالية، فضلاً عن الدعومات الخاصة باستهلاك الكهرباء والمياه وإسكان الطلاب. ونتيجة لذلك، شهدت البرازيل، في 15 أيار الفائت، أكبر احتجاجات مناهضة للحكومة خلال الثلاثين عامًا الماضية، حيث كانت المشاركة فيها تصل الى مليوني مواطن. وقد وصف بولسونارو المتظاهرين بأنهم "حمقى لا فائدة فيهم" و "أغبياء". ومع ذلك الغت الحكومة بعض التخفيضات في قطاع التعليم، وقررت إطلاق قرابة 360 مليون يورو، في حين ظلت التخفيضات الخاصة بالجامعات على حالها. وكان وزير التعليم أبراهام وينتراوب قد برر قرارات التقشف ذات الدوافع الأيديولوجية بأنها انتقام من المواقف النقدية للطلاب والمحاضرين في الجامعات. وقال وينتروب ان "الجامعات التي تتسبب في المزيد من الاضطراب بدلاً من تحسين الأداء العلمي، يتم تخفيض الأموال المخصصة لها"، مما أطلق حملة من الانتقادات لهذا التصريح المنافي للدستور. وبدأ المدعي العام الاتحادي تحقيقا مع الوزير بتهمة الاضرار بالسمعة، وعلى إثر ذلك نأى الوزير بنفسه عن تصريحاته.
والاحتجاجات موجهة ايضا ضد "إصلاح" قانون التقاعد. وتقوم النقابات بتعبئة قطاعية واسعة للاحتجاج على التخفيضات الهائلة في الرواتب التقاعدية، وعلى رفع سن التقاعد وخصخصة المعاشات التقاعدية، والتي يتبناها وزير الاقتصاد باولو غويديس، المتحمس جدا لاقتصاد السوق الليبرالي. ويعتبر نجاح الإضراب مؤشراً على مدى جماهيرية سياسة حكومة بولسونارو. وكانت استطلاعات الرأي قد اكدت تزايد الرفض لاداء الرئيس بنسبة 5 في المائة أخرى، لتصل نسبته الى 36 في المائة. مقابل تأييد 34 في المائة، وحوالي 26 في المائة متحفظين.
وتتصاعد المقاومة طرديا مع استمرار حكومة اليمين المتطرف بتعميق سياسة الليبرالية الجديدة، والهجوم الفاشي على الحريات وحقوق المواطنين الديمقراطية والعمل على عسكرة المجتمع والبلاد على طريق محاولة خلق قاعدة لبناء نظام سياسي فاشي بقميص ديمقراطي، ولكن جهود الفاشيين الجدد تصطدم بمقاومة اليسار الذي يمتلك تواجدا شعبيا وبرلمانيا قويا ليس على مستوى البرلمان الفيدرالي وحده، بل وفي برلمانات الولايات ومجالس بلديات المدن. وحقق العداء للفاشية، ما لم تحققه اوساط اليسارمن تلقاء نفسها، لقد بدت مختلف منظمات اليسار متقاربة مع بعضها البعض، أكثر من أي وقت مضى. وشهدت لشبونة البرتغالية وفرانكفورت الالمانية ومدن في بلدان اخرى تظاهرات تضامنية مع حركة الاحتجاج البرازيلية، من جانبه حاول الرئيس تنظيم تظاهرات مضادة، مدعيا ان "قوى الظلام" تريد التغلب عليه ومنعه من كشف موهبته الكاملة كرجل دولة. ولكنها جاءت ضعيفة وليس بحجم الجموع المعارضة. وتعزز العمل المشترك والتنسيق بين قوى اليسار والحركات الاجتماعية، وخصوصا بعد إطلاق سراح الزعيم اليساري، والرئيس الأسبق للبلاد سلفيا دي لولا، الذي بدا يتصدر ويقود نشاط المعارضة السياسية في البلاد.
سلفيا دي لولا يستعيد حريته
بعد ان قضى 580 يومًا في السجن، أطلق سراح الرئيس البرازيلي الاسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. وغادر الزعيم اليساري البالغ من العمر 74 عامًا السجن الذي أودع فيه في نيسان 2018. وكان قاض محلي قد أصدر امر الإفراج المؤقت عنه. واستقبل آلاف من أنصار اليسار الرئيس السابق وهو يغادر السجن برفقة محاميه وافراد عائلته وزعيمة حزب العمل البرازيلي غلاسي هوفمان. وحيا لولا مستقبليه وعانق الكثير منهم. وارتجل كلمة شكر فيها كل من أسهم في إطلاق سراحه، وخاصة المحتجين الذين كانوا يتجمعون امام بوابة سجنه ويبادلونه التحيات "أنتم الذين ابقيتم الديمقراطية حية "، وأضاف "إنهم لا يريدون اعتقال رجل، بل أرادوا اعتقال فكره".
وكانت المحكمة العليا في البرازيل قد أصدرت قرارا يمنع احتجاز المتهمين المدانين في بموجب قرار من الدرجة الأولى او الثانية ولم يكتسب الصفة القطعية بعد، لأن افتراض البراءة يبقى قائما حتى استنفاذ جميع الإمكانات التي يتيحها القانون. وبالتالي فان الاحتجاز المسبق غير شرعي. وعلى إثر ذلك قدم محامو "لولا" طلبا بإطلاق سراحه فورا. وقد تكلل جهدهم بالنجاح. وأشار قرار القضاة الى انه "لم يكن هناك أي أساس لتنفيذ العقوبة". وجاء القرار بـ 6 أصوات، مقابل 5 كانوا ضده. واستفاد من القرار 5 آلاف محتجز بضمنهم رئيس الجمهورية الأسبق.
وأدين "لولا" بالفساد في عام 2017 في محاكمة اثير حولها جدل كبير، ومثلت بداية لحرب سياسية تهدف الى اقصاء اليسار من السلطة. ودخل منذ نيسان 2018 السجن ليقضى مدة عقوبته، التي تم تخفيضها من قبل المحكمة العليا من 12 الى 8 سنوات و10 أشهر. وكان قاضي التحقيق آنذاك، سيرجيو مورو، قد اتهم "لولا" بتلقي شقة فاخرة، مقابل تمرير عقود لشركة بتروبراس المملوكة للدولة مع احدى شركات الابناء الكبيرة. وقد رفض "لولا" التهم الموجه اليه، ولم يتمكن الادعاء العام من تقديم ادلة دامغة، وعلى الرغم من ذلك تمت ادانته. وفي هذه الاثناء تم الكشف عن محادثة بين القاضي والادعاء العام اثبتت ان المحكمات كانت اشبه بالمهزلة.
وقد سارع القاضي اليميني سيرجيو مورو الى إيداع "لولا" السجن ليحرمه من المشاركة في انتخابات الرئاسة، التي كان فيها، حسب جميع استطلاعات الراي، المرشح الأكثر حظا بالفوز، وبالتالي ساهم قرار مورو بشكل كبير في تسهيل مهمة الرئيس الفاشي الحالي بالفوز على مرشح اليسار البديل بفارق ليس كبير، بالمقابل كرم الرئيس بعد فوزه، قاضيه بتعيينه وزيرا للعدل.
وكان "لولا" قد رفض بشدة التخفيف من ظروف سجنه ومنحه حرية جزئية فقط، وقد ايده في موقفه المتماسك 250 قاضيا ومحاميا محليا، انظموا الى حملة حقوقية عالمية، وأكد بيانها على ان "لولا" ضحية للعبة التفاف سياسية. واستند قرار تخفيف ظروف سجنه، والقاضي بمنح "لولا" حرية جزئية خلال النهار على ان يعود مساء الى سجنه، على تعامل "لولا" الإيجابي خلال السدس الأول من العقوبة المقرة بحقه. وجاء رفض "لولا" في رسالة له انه "لا أستبدل كرامتي بحريتي"، مضيفًا أنه يريد مغادرة السجن، بعد ان يرد له اعتباره بالكامل، ولا يوافق على أي قرار آخر سوى إلغاء المحاكمة والاعتراف ببراءته. وانه ينبغي على الذين وقفوا وراء العملية أن يعتذروا للشعب البرازيلي عن ملايين العاطلين عن العمل، وعن الضرر الذي ألحقوه بالديمقراطية والقضاء والبلاد". ويمكن ان يكون الافراج عن "لولا" بداية لمراجعة كل المحكمات التي جرت بحقه، وأعلن السياسي الأكثر شعبية في البرازيل أخيرا عدم الترشح لانتخابات الرئاسة في عام 2022. وبالتوازي مع تعرض "لولا" للمحاكمة وخلال وجوده في السجن، انطلقت حركة احتجاج واسعة في البرازيل وحملة تضامن عالمية للدفاع عنه والمطالبة بإطلاق سراحه، كان آخرها حملة التواقيع التي أطلقها الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل "بواسطة حملة التواقيع نتابع إطلاق سراح "لولا" الفوري. وفي مدينة ساو ياولو البرازيلية خرجت الحركات الاجتماعية في تظاهرة حاشدة مجددا مطالبة بإطلاق سراحه
وإلى جانب الهتافات ضد بولسونارو، كان شعار "الحرية للولا" يتكرر في التظاهرات باستمرار. وتلقى "لولا"رسالة دعم من بابا الفاتيكان. حيث كتب البابا: "ينبغي على لولا ان لا تثبط عزيمته"، فالنور يعقب الظلام.