من خلال قراءاتي المتعددة، وأنا أحاول ان أتبين ماذا على الماركسية ان تقدمه في ظل العولمة والنظام الامبريالي، والحركات الدينية الملتهبة، والتطرف القومي والمذهبي؟ حاولت أن أركز على دراسات نقدية وعلمية وصريحة وردت في مجلة الثقافة الجديدة بشكل خاص وبعض المصادر الأخرى، وهو ما أتاح لي ان أقارن بين ما كان يختزن في ذاكرتي عن الماركسية وبين ما يطرح اليوم، وهو ما جعلني أعيد حساباتي في فهمي للماركسية، بشكل أكثر علمية وواقعية واتزانا. ولذلك فإنني اقدم هذه الدراسة عن الماركسية في محاولة للتعريف بما حققته الماركسية في مسيرتها التي تمتد أكثر من 150 عاما، استنادا الى مجموعة مقالات لمناضلين وكتاب ومفكرين وفلاسفة، لهم باع طويل في الفكر الماركسي، حيث وردت في مجلة الثقافة الجديدة.

1 - الماركسية طريق المستقبل

منذ ان صدر البيان الشيوعي عام 1848 والذي كتبه (ماركس وانجلز)، باتت الأفكار التي طرحها ذلك البيان تشكل منهجا لعمل الحركات الثورية، كما ان البيان الشيوعي شكل حلقة جديدة في بروز حزب الطبقة العاملة، وانتهى مع ذلك البيان، او لنقل بات تأثيرها ضعيفا ، مثل التيار الطوباوي والتحريفي والانتهازي والتوافقي، حيث تمسكت البروليتاريا بالخط الماركسي الذي طرحته الأفكار التي وردت في البيان الشيوعي.
ومنذ ذلك التاريخ أيضا تمكنت الطبقة العاملة ان تجد سلاحها الفكري في الدفاع عن مصالحها ضد الاستغلال الطبقي الذي تمارسه الطبقة البرجوازية ونظامها الرأسمالي. { طرحت الرؤية الماركسية حول المجتمع والتاريخ في " البيان الشيوعي " – 1848- على شكل قصة مثيرة تصف صعود الرأسمالية والمجتمع البرجوازي وتغييرها الثوري على يد البروليتاريا الصناعية }.(1)لم الماركسية / فرحان قاسم /بالاستناد الى دوغلاس كلنر، الماركسية الغربية / ترجمة كامل شياع " دار الرواد 2007 – بغداد".
أن ماركس كان قد تنبأ منذ وقت مبكر، أن الرأسمالية يمكن ان تصبح نظاما عالميا " عولمة النظام الرأسمالي "، ولذلك تقول الكاتبة اليسارية " الين مايكنس وود" وهي تذكر بالنبوءة التي رسمها ماركس وانجلز للرأسمالية وهي تكتسح العالم محطمة كل " الأسوار الصينية " { أنني أزعم أن اللحظة التاريخية التي نمر بها ألآن، هي اللحظة ألأفضل وليست ألأسوأ، ألأكثر وليست ألأقل ملائمة للعودة الى ماركس من جديد. وسأدعي أيضا بأن هذه اللحظة بالذات هي التي ينبغي ويمكن لماركس أن يأخذ مكانته كاملة للمرة ألأولى – دون ان نستثني من ذلك المرحلة التي عاش فيها بالفعل }.(2) الثقافة الجديدة : العدد386/ كانون الثاني 2017
وهذا برأينا البسيط هو ما يجعل الماركسية طريقا سالكا للمستقبل، بحيث تصبح أفكار ماركس وإنجلز التي كانت وما زالت فتحا علميا وسيرورة متقدمة وسلاحا فكريا ماضيا تمتلكه الطبقة العاملة الصناعية، لتغير واقعها وتقيم نظامها ألاشتراكي، وهو ما يضع الماركسية منهجا لعالم المستقبل، وأيقونة الحياة التي يعيش فيها ابناء وبنات الطبقات المسحوقة والمهمشة والمستغلة " بفتح الغين".
وتؤكد الماركسية "أن الصراع هو مصدر التطور "، ولذلك كان الديالكتيك هو القوة ألأساسية في الماركسية، { وبهذا لم تعد الماركسية محض علم يشتمل على مفاتيح المعرفة الموضوعية بقوانين سيرورة تاريخية موجهة من قبل الاقتصاد، وإنما تغدو نقدا فعليا مصاغا من وجهة نظر طبقية، بهدف إيقاظ الجماهير على وعي مهمتها التاريخية وشق الطريق امام الممارسة الثورية }. (لم الماركسية / فرحان قاسم / بيت الكتاب السومري.
وحيث أن الماركسية فكرا متحركا وفق الديالكتيك العلمي، فهي بهذا التوصيف تصبح نظرية المستقبل، وطريقا للحركات الثورية لشق طريقها نحو بناء دولة المستقبل الاشتراكية.
ولذلك فهذا المناضل الشيوعي المعروف " سام ويب " يطرح على اليسار عموما،هذا التساؤل وهو { ماذا يتعين على الحزب الشيوعي واليسار عموما القيام به كي يخوضا النضال بفاعلية أكبر من اجل العدالة ألاجتماعية والاشتراكية؟ }.
ورغم ان ويب يتحدث او يحاور اليسار ألأمريكي بشكل خاص، لكن ذلك لا يعفي الأحزاب الشيوعية واليسار عموما من الانطلاق نحو فهم جديد لمهمة حزب الطبقة العاملة حاضرا ومستقلا، لكن ويب بالمقابل يؤكد أن { لا أحد لديه اجابات كاملة على التحديات الهائلة للحاضر والمستقبل " هذا أولا "، وثانيا : لدى كل واحد منا شئ يساهم به في تجديد اليسار الذي يمثل الحزب الشيوعي جزءا لا يتجزأ منه } "أي حزب للاشتراكية في القرن الحادي والعشرين ؟ } الثقافة الجديدة - 376-377 / أيلول 2017
إن الرئيس السابق للحزب الشيوعي ألأمريكي (سام ويب) يعتبر واحدا من ابرز المفكرين الماركسيين، ولذلك فهو يدفعنا لمتابعة موضوعته الفكرية }أي حزب للاشتراكية في القرن الحادي والعشرين؟؟{، وهو يسرد الأفكار التي سطرها في موضوعه أعلاه فإنه يؤكد }أن معظم ما اكتبه هو ذو طابع استكشافي بمعنى آخر أنه عمل متواصل وغير مكتمل، وسيلاحظ القراء بالتأكيد وجود تناقضات ولحظات صمت وأفكار غير مكتملة{.
ومع أن المفكر " ويب" يدرك جيدا أن هذا لا يشجعه على نشر هذه المادة، لكنه يدرك أيضا أن هناك أمرين مهمين جدا { أولا : لا أحد لديه إجابة كاملة على التحديات الهائلة للحاضر والمستقبل، وثانيا : لدى كل واحد منا شيء يساهم به في تجديد اليسار الذي يمثل الحزب الشيوعي جزءا لا يتجزأ منه }.
وهذا ما يشغل "ويب " بالذات وهو كيف يساهم في تجديد حركة اليسار وتزويدها ببوصلة العمل التي تجعلها في ركب المسيرة الدائبة مع امتلاكها للسلاح النظري {إن نقطة ألانطلاق للماركسية هي الحاجات والنضالات والمصالح الفعلية للطبقة العاملة والشعب : أي الحركة الفعلية }. ولذلك فإن " سام ويب " يختصر المسألة بشكل واضح {إن الماركسية هي طريقة في التحليل تقوم على أسس علمية، وبوصلة للنضال، وتيار مشروع " وضروري" داخل الطبقة العاملة والحركة الشعبية}.
وحيث أن " ويب " يعي جيدا أن هناك ضرورة لابد منها،بأهمية إعطاء الماركسية اهتماما متزايدا،وأن { أفكار ماركس وأنجلز ولينين وغيرهم من الماركسيين الأوائل، تحتفظ على نحو لا يصدق بقدرتها التحليلية إذا جرت دراستها وتطبيقها بصورة خلاقة على الواقع الراهن } لذلك فهو يؤكد }أن حزب الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين يعتنق الماركسية، باعتبارها منهجا نظريا واسعا يصل الى مديات أبعد من الحركة الشيوعية، وهو في الوقت نفسه يستوعب على نحو حاسم الإرث الراديكالي الديمقراطي الأمريكي ورؤى مناهج فكرية وسياسية أخرى{، لكنه من باب آخر يدعو الى (التخلي عن مصطلح الماركسية اللينينية، لصالح الماركسية) لأنها حسب رأيه ليست مطابقة للماركسية الكلاسيكية.

2 -لماذا العودة الى ماركس؟

في مقال كتبته الصحفية اليسارية " الين ما يكنس وود " في مجلة (Monthly Review) عام 1997م حيث ترجمه " عماد عباس " الى مجلة الثقافة الجديدة والتي أعادت نشره في عددها (386) في كانون الثاني 2017 , تحت عنوان (لنعد الى ماركس)، هو في الاصل منشور في العدد (285) تشرين الثاني – كانون الاول 1998 في الثقافة الجديدة.
ولكن السؤال الأكثر أهمية والأشد بروزا هو (ما هي الدوافع التي تجعل من رواد الفكر الماركسي والأكاديميين اليساريين يدعون دائما العودة الى ماركس)؟
تقول الين وود جوابا على هذه التساؤلات : أننا نعيش في اللحظة التي صارت فيها الرأسمالية لأول مرة نظاما عالميا حقا، وتؤكد وود أيضا : أن ماركس أوثق صلة اليوم بالعالم مما كان في اي وقت مضى.
ورغم ان الكاتبة والباحثة الرائدة قد أشارت الى أن (ماركس كرس حياته تكريسا لا يماثله أي شخص آخر الآن او في الماضي، لشرح منطق الرأسمالية كنظام)، إلا أنها ومن خلال فهمها العميق لدور الماركسية في الراهن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، فإنها تستنتج أنه (لابد للرأسمالية ان تطور نفسها بعد ماركس) ، وذلك استنادا الى المعطيات التالية :
1 –
لم يكن هناك نموذج للرأسمالية سوى في دولة واحدة – بريطانيا - وتؤكد ايضا أن كتاب " رأس المال " سمته المميزة استمدها من حقيقة بسيطة هي انه يتناول نظاما رأسماليا واحدا، كما لو كان قائما في حدوده.
2 -
كان ماركس قد اعتمد أنضج نموذج للرأسمالية وهو النظام الرأسمالي في بريطانيا.
3 –
وحيث ان لينين كان قد اعطى الإمبريالية توصيفا فريدا عندما وصفها بأنها (أحدث مراحل الرأسمالية، او أعلى مراحل الرأسمالية)، إلا أن ذلك لم يدفع الحكومات الرأسمالية الى خوض مواجهات عسكرية على مناطق النفوذ إلا بدرجات متفاوتة.
4 –
إن التمدد الرأسمالي، وتحول نظام الإمبريالية الى نظام عالمي، لا يمثل مقياسا للنجاح، بل أنه مرض او ورم سرطاني، لأنه يمزق النسيج الاجتماعي مثلما يدمر الطبيعة.
5 –
ان هذه الاستنتاجات التي قدمتها الباحثة الين، هو نفس ما أكده ماركس قبل قرن ونصف، حيث تقول (فمهما كان اعتقاد ماركس بشأن الانتشار العالمي للرأسمالية، أو الحدود الممكنة لهذا الانتشار، فإن ذلك لم يكن شاغله الرئيس).
6 – (
لقد انصب اهتمامه بالأساس على المنطق الداخلي للنظام وقدرته المميزة على نشر نفسه، متغلغلا في كل أوجه الحياة حيثما ثبت جذوره).

الفيلسوف والمفكر ألألماني توماس متشر }والماركسية ليست ايديولوجيا{:
في حوار مع المفكر والفيلسوف الألماني اليساري "توماس متشر" حول الماركسية وكيف يفهمها متشر.. نشر في عدد الثقافة الجديدة (384) في أيلول 2016، فكانت الإجابات التي قدمها هذا المفكر الرائع والفيلسوف الأكثر روعة، تمثل دراسة علمية وخلاصة مركزة للكثير من المسائل ذات المساس المباشر بالنظرية الماركسية ومدى قدرتها على التفاعل مع الأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحرك وتتحرك في المجتمعات المختلفة.
يقول متشر في رده على سؤال " ماذا تمثل برأيك عموما الماركسية؟":
يقول المفكر متشر عن الماركسية أنها:
1 - (
عملية معرفية و سيرورة لا نهائية)، كما ان الماركسية (علم نقدي، يتعامل بروح نقدية في مواجهة أية ايدولوجية، وبلا عنصر النقد تتحول الى إيديولوجيا).
2 -
و(علم الماركسية نسبي لا نهائي غير قابل للإغلاق).
3 -
كما يؤكد ايضا أن (الماركسية رؤية فكرية سياسية للعالم تتجسد فيها مسلمة وحدة النظرية والتطبيق، ووحدة الحركة السياسية والرؤية الواضحة للعالم).
4 –
وأن (جزء الماركسية الأساسي هو الديالكتيك، والديالكتيك كمنهج يلزمنا ويمكننا من الكشف عن الواقع المتغير في لحظة تغييره).
5 –
و(الماركسية رؤية فكرية وليست إيديولوجيا، لأنها لا تدعي المعرفة المطلقة، لا تمثل الحقيقة المطلقة).
6 –
والماركسية ايضا هي (سلة من المعارف العلمية، إن الماركسية كنظرية علمية هي سلة معارف مستلمة، تتطلب الفحص المستمر ومراجعة الأخطاء، والتطوير الدائم في ضوء التجارب والأفكار الجديدة).
7 –
ويستطرد المفكر والفيلسوف توماس متشر في إجابته قائلا (تقوم الماركسية على ثلاثة ركائز : العلم، الفلسفة، الفن، وهذه القراءة تعد مقترحا موسعا في مقابل القراءة المعتادة وحتى التقليدية للماركسية).
8 -
كما يتحدث المفكر متشر عن (وسائل تأهيل الوعي التاريخي، دعم المشتركات، وإزالة الحدود). وهو يتحدث عن الإسلام والماركسية، حيث يذكر (نحن نحتاج لدراسات عن تاريخ الإسلام سياسيا وثقافيا، وعلاقته مع العالم غير الإسلامي، وإمكانياته الثقافية). ويرى توماس أيضا عن أهمية "أنسنة" الثقافة العالمية، ويعتبر هذا العمل مهمة مشتركة،لأنها "الأنسنة" (تحتل موقعا مركزيا في مفهوم الماركسية الثقافي).
9 -
لكن اللافت في ما يطرحه المفكر والفيلسوف توماس متشر هو ما اسماه (الماركسية التكاملية) وهو مفهوم حديث يوضح متشر ذلك بالقول (وللوصول الى ماركسية مفهومة صغت مفهوم الماركسية التكاملية) ثم ان المفكر متشر يسترسل موضحا معنى التكاملية (التكاملية مرتبطة بالقدرة على دمج المعرفة العلمية الثقافية في نظام الفكر الماركسي الواضح، ان ماركسية مفهومة كهذه تحوي إمكانات مستقبلية تجعلها تتقدم على كل الرؤى العلمية المنافسة للعالم).
ويعود متشر أيضا إلى الحديث عن أهمية الأخلاق في الفكر الماركسي و" اليوتوبيا " ايضا، رغم تأكيده على أن مؤسسي الماركسية " ماركس وانجلز" كان موقفهما واضحا جدا من " الاشتراكية الطوباوية " حيث وجها لها نقدا صريحا وواضحا، لكن متشر يقترح (استعادة اليوتوبيا) :
1)
ومقترحي هو استعادة اليوتوبيا في الماركسية، ليس بالضد من توجهها العلمي، بل لغرض تحقيق تنوع فيها.
2)
اليوتوبيا كفكر الممكن تاريخيا، ولنتخذ قرارا بشأن ما هو ممكن تاريخيا، فإن الأمر يقع في إطار معرفة علمية ممكنة.
3)
الأخلاق مركزية بالنسبة للماركسية، كما هي اليوتوبيا، التي تقف الى جانبها.
4)
وهذا باعتقادي يشكل ركيزة أساسية في (فكرة الكرامة التي لا غنى عنها بالنسبة للإنسان).