من أين ابتدء الذكرى ، حينها انا صبي في مدرسة الشامية الابتدائية للبنين ، الحرس القومي نعرفهم سجن الشاميه مكتظ بالكثير من الشيوعيين الذين اعتقلتهم الشرطة مع الحرس القومي البعثي ولهذا صفحات اخرى مدونة ومن عائلتي اثنان من اخوتي واربعة من ابناء عمي وفي هذه الايام العصيبة الدموية تحديدا في الشهرالرابع 1963 نيسان هنا اتذكرها جيدا لكونها تأتي غالبا الى بيتنا نحن بنات وابناء وعائلة مهدي غلآم ، نحبها وخاصة والدتي صديقتها ، اتذكرها ، امرأة مزيونة ممشوقه متقدة حكيمة وكنا نطلق عليها اسم " مله حوري " لكونها تملك حنجرة رائعة في الندب والنعي والقراءات الملائية وتملك موهبة شاعريه فهي شاعرة مرتجله تملك وعيها وتعرف القراءة جيدا ومناضله شديدة المراس اتذكرها حيث كنت اناديها " بيبي حوري " والدتي " زكية " كانت تطلب منا نحن الاشقاء ان نناديها خالة " أم محمد " في ذلك اليوم الممطر، دخلت على بيتنا وهي مخوله بالدخول للبيت بدون استأذان ، كان يوم الجمعة ،وقبل الظهر، حيث لا مدرسة والجو بارد . تحمل على رأسها زبيل " كَوشر" ويد تلف بها عبائتها من خلال فتحة فيها ويدها الثانية قابضه بها على الزبيل الموضع على رأسها . قبل اشهر كانت عمة والدي متوفاة ... جلست أم محمد واخذت تنعى مباشرة ، نحن الاشقاء كنا حول المدفئة ، اعتقدنا انها تواسي والدتنا بوفاة عمة أبي . كان الزبيل المغطى بقماش اسود وعلى مايبدو فيه شيء ثقيل ملابس اواشياء اخرى نجهلها ، وبدء صوتها الرخيم وكانها تتهدج في محراب متصوف صوتها الشجي يحثنا على النحيب والبكاء عاطفيا وهي مرة تأتي بأسم عمة والدي ، ومرة تعرج على اسم ( محمد ) لاحقا افتهمت ان ابنها الشيوعي الكبير الذي هرب مع رفاق اخرين من سجن الكوت بعد انقلاب 8 شباط الدموي 1963 وجاء الى الشامية ، المعلم الشيوعي محمد أحمد الخضري. والتجئ في بيت لفلاح شيوعي يقع جنوب الشامية منطقة العين من اراضي عشيرة الحميدات،عن تلك الظهيرة وأم محمد تنعي وتنوح وأمي معها تشاركها النحيب ونحن نبكي بصمت لا نعرف على من هي تقرأ بصوتها الشجي هذا النعي لكنها تكرر" محمد يابني يامحمد ، عسى الضيم ماصدك . بحة صوتها لن تتكرر، حياة فطرية في طورها الأول، جمعت العشق مع الحزن وأنتجت أعذب الكلمات والألحان امتزجت آهات والدتي مع البحة سريعا ، ونحن طفح الدمع من عيوننا والنشغات في انوفنا وحناجرنا شجو وشجن صامت . مله حوري كأنها سحبت حزنا موجوعا من قلوب بلا أغلفة ، سرعان ما ارتدى أصوات النحيب والنعي والرثاء الغافي على الشفاهنا ، ونحن بانتظار زقزقة العصافير . والدتي ونحن وبيبي حوري تستعرض مهاراتها المشهودة في اختيار الأشعار الحزينة النافذة إلى قلوبنا كانت تقرأها بأداء متقن، بإحساس عالٍ يلائم ترددات خامة صوتها المميزة " بالتعبير الموسيقي" التي توحي بأنها حزمة ألحان وآهات مؤثِرة، تخرج من أعماق قلبها المكتظ بالفقدان، لتبث الشجن العراقي الملازم لفواجع الدهر.محمد يابويه محمد ياوليد يامحمد وهي تنشد أبيات نعي متفرقة، بصوت عذب حزين، والدتي كفكفت دموعها واحتظنت بيبي حوري وهدئتها ونحن ننشغ ونمسح دمعنا باردان ثيابنا لكن أم محمد ظلت تهز برأسها وتنشد // محمد أرد أعاتبكم يالطياب // من جور گلبي وعُظم المصاب // ذاب الگلب، من الهضم ذاب // والراس، من امصابكم شاب ... مله حوري هذه المرأة المناضله النحيفة واللطيفة التي كانت تجلس قبالتنا بدأت والدتي تهدئ من روعتها ونشيجها وهي تتحدث معها ، ونحن نصغي لها كيف تتكلم بصوت فيه كل هذا الألم والكبرياء . كانت امرأة بارعة ، تمتهن بدراية إبكاء النساء اللائي كانت دموعهن متأهبة ، تنتظر لمسة شجن لا غير، هكذا تكلمت امنا معنا وهي تشيرالى أم محمد " مله حوري، اوبيبي حوري" تبتسم لوالدتي وبعدها ذهبت الوالده لجلب الطعام فلقد حان وقت الغداء. واكررعن المله حوري وكيف كان صوتها وذكرياتي عنها الى الآن. فهي صاحبة صوت رنّان، يتميز بطبقاته العالية حادة النغم والنبرات ، وذات نكهةٍ ريفيةٍ محببة ، تأسر الألباب ، وكانت الأشعار والأبوذيات التي تختارها مليئة بالحزن والشجن والخيال ، تحرث العواطف المتأججة ، لتشعل نيران الفجيعة بقلوب النسوةٍ الباحثاتٍ عن تفريغ أحزانهن ومواجعهن المتلاحقة هكذا في خاطرتي عن المناضلة الكبيرة أم الشهيد الشيوعي محمد أحمد الخضري : في يوم الجمعة الموافق 20 آذار 1970 توجه من داره إلى صدر القناة في بغداد للمشاركة في حفل تكريم الوفد الكردي بعد عقد اتفاقية 11 آذار، ولكنه لم يصل إلى مكان الاحتفال ، وظهر انه اختطف من قبل جلاوزة النظام ووجدت جثته في اليوم التالي في ناحية بلد وفيها عدة أطلاقات نارية... شيع جثمانه الطاهر في يوم 22/3/1970من قبل ذويه ورفاقه ومحبيه ( اتذكر التشيع حيث كنا مع المشيعين ، وصل الجثمان غروبا وكان الجو ماطرا واتذكر مع الجثمان الرفيقة الدكتورة ، نزيهة الدليمي والدكتور صفاء الحافظ والدكتورعلي الشيخ حسين الساعدي واخرين وكان معنا رفاق منظمة حزبنا الشيوعي في النجف ، حملنا الصواني فيها بعض الشموع والزهور، ولقد اعتلت " بيبي مله حوري " احد القبور وانشدت وابكت ارتجالا وللتاريخ كان ازلام النظام تطوق المكان والمرحوم " عبد الامير مديد ، كان من القوميين العرب " سحب مسدسه واطلق اطلاقات نارية حينما وارى الجثمان الطاهر الثرى ) إلى مدينة النجف ليدفن فيها، وهو ينتظر طفله الأول حيث كان قد تزوج حديثاُ .والده كاسب، صاحب مقهى صغير في ناحية الخضر .أم محمد مله حوري مناضلة ومجاهدة في صفوف الحزب الشيوعي، عانت ما عانت من العذاب والشقاء محبةً واعتزازاً بالحزب وبولدها محمد. على اثر هروب محمد من سجن الكوت بعد أحداث 8 شباط الدامية أحيلت أم محمد إلى المجلس العرفي بعد جولة من المداهمات والضغوطات ، وقد حكم عليها الحاكم العسكري بالسجن لمدة عامين بعد ترديدها لعبارة " على الله . وما يخالف . تنكَضي وتصير سوالف " وقضت أم محمد محكوميتها في سجن بغداد عامين كاملين .في ذكرى استشهاد الخضري لا بد من استذكار الفلاح الشهيد هادي الكعبادي ،ولقد حظي محمد الخضري بحب الفلاحين ،وكان يقيم في دار الفلاح الشهيد هادي الكعبادي ،في ريف الشامية ، حين طوقت الدار من قبل " زركة " للشرطة والأمن في المنطقة فأبدى هادي بسالة وتضحية مشهودة ، لإنقاذ محمد من الوقوع في أسرهم ، ودفع لموقفه ثمناً ، هو حياته الغالية حينما قتل برصاصهم في ربيع 1964 .

عرض مقالات: