كنت قد كتبت عن الموضوع ، ولكن بصيغة أخرى بصفحتي على الفيسبوك ، وطلب مني عدد من الأصدقاء أن أتناول الموضوع، على صفحات المواقع الألكترونية الغراء لسببين اولهما سعة إنتشار هذه المواقع ،وكثرة متابعيها ،وثانيها اهمية الموضوع لكونه من الدراسات الحديثة . أقول كثيراً ما يردد الناس،حين يبرز التباين بين الآراء، مصطلح "الرأي والرأي الآخر" وكل واحد منهما يحتمل الصواب او لا يحتمله. ونحن ندرك ان الحياة منحتنا إمكانيات لا حصر لها ، لإستخدام ما جادت به علينا من منجزات البحث والعمل والعلم ، وفي الغالب يكون هذا الإستخدام وفق رؤى، وغايات متعاكسة ، فكثيرة هي المعطيات والظواهر، التي استخدمت  فيها الظاهرة الواحدة في الواقع العملي لهدفين متعاكسين ، لكل واحد منهما غايته التي يتوخاها، وقديما قال ابو الطيب المتنبي في قصيدته الرائعة "صحب الناس قبلنا ذا الزمان" بيتا رائعا هو الآخر يوضح لنا الرؤى المختلفة لإستعمال الشئ الواحد الذي جادت به الطبيعة، حيث قال:

كلما أنبت الزمان قناة        ركب المرء في القناة سنانا

فالقناة وهي القصبة يمكن أن تبنى منها البيوت أو يصنع منها الأثاث ، ويمكن ان تحول لسلاح الرمح ، إذا ما ركب لها النصل (السنان)، والسنان هو رأس الرمح.

ولنا في موضوعة الجموع أمثلة حية ملموسة عن تباين اهداف نشاطها، ولا يخفى على أحد إن النشاط الإنساني، ومنذ أن ظهر الأنسان على وجه البسيطة، كان نشاطه يمثل نشاط الجموع، إذ كانت ضرورات الحياة، وحاجة البشر للعيش تستدعي ذلك النشاط الجمعي . وعند ظهور المجتمعات الطبقية ، وبرزت بشكل واضح مسألة إستغلال الإنسان للإنسان ، استخدمت نشاطات الجموع لصالح المستغلين (بكسر الغين). وحينما دارت رحى الحروب بين الأقوام كانت جموع المحاربين ، أداة أوارها وسعارها، وبنفس الوقت وقودها وقسم من ضحاياها. والكل يعرف كيف لجأت الأحزاب والحركات الفاشية، الى توظيف الجموع والتأثير عليها، وتنويمها مغناطيسيا للإستفادة القصوى من طاقاتها المتعاظمة اثناء استمرار عمل هذه الجموع. فما هو السر الكامن بفعالية الجموع وقدرتها على ذلك ؟

لذلك دأب علماء النفس، وما زالوا على دراسة، السلوك النفسي للجماعات، واوجدوا لذلك علما يدعى علم النفس الإجتماعي، الذي يحرص على بحث ودراسة الأفعال النفسية وردودها ، في داخل الجموع البشرية، التي تواجه حدثا مشتركا، وبالتالي صياغة الإستجابات النفسية المتشابهه والمشتركة بين أفراد هذه العينة. فمثلا مشاهدة ردود أفعال ركاب حافلة تتعرض لحادث في سيرها او غيرها. لم يكتف علماء النفس الإجتماعي بدراسة الحوادث المزعجة وردود الأفعال الناتجة عنها إجتماعيا ، وإنما قاموا بدراسة سلوك مشجعي فريق نادي معين لكرة القدم مثلا ، أو لكرة السلة، سواء كان هذا الفريق فائزا او خاسرا ، ودراسة الفروقات بين السلوكين.
وانطلقوا في دراساتهم، الى ما يطلق عليها الجموع المتراصة، وهي الجموع التي لا يكون للصدفة في تكوينها دور اساسي، بل تلعب الرغبة والحاجة في تكوينها هذا الدور الساسي ، فمثلا تكوين فصيل من الكشافة أو ما يطلق عليها أيضا عندنا في العراق الجوالة. او تكوين الجند او الشرطة. هنا الجموع تكتسب صفات خاصة ، وتخضع للوائح وقوانين خاصة، وغالبا ما يكون لها زيها الخاص الدال عليها.

وكان عالم الإجتماع والفيلسوف الفرنسي فيليب غوستاف لوبون (7 آيار 1841م-13 كانون اول ديسمبر1931) اول من قام بالدراسة المنهجية في هذا المجال من خلال كتابه (سيكلوجية الجماهير) والذي أوضح فيه إنه عندما يتجمع الأفراد المختلفين في نمط الحياة أو المتشابهين والمختلفين أو المتشابهين في النوعية، عندما يتجمعون كجمهور، فإن هذا التحول يزودهم بنوع من الروح الجماعية تجعلهم يحسون ويتحركون بطريقة تختلف تماما عن الطريقة التي كان يحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان منعزلا. وقد أثبتت التجارب ذلك.
ومن ابرز هذه التجارب ما سميت بوقتها (تجربة سجن ستانفورد) وهي تجربة اوقفت قبل ان تكمل دورها ، لبعدها عن المعايير الإنسانية! سميت التجربة ستانفورد نسبة الى جامعة ستانفورد التي اجريت فيها هذه التجربة. وكان على رأس القائمين بها العالم السايكلوجي البرفسور زيمباردو(تولد آذار مارس 1933م)
التجربة أقيمت بطلب من البحرية الأمريكية لغرض تطوير نظام السجون عندها ، خلاصتها، تم أختيار بالقرعة الصرفة عددا من طلاب الجامعة ليعلبوا دور السجانين ، وعددا من الطلاب ليلعبوا دور السجناء (كان إختيار نوع المهمة - سجين او سجان - يتم حسب رغبة الطالب) وكان قسم من السجانين غطوا وجوههم باقنعة تشبه أقنعة (الكوكس كوكلان) المشهورين والقسم الآخر منهم غير متنكرين ، المهم مع إستمرار التجربة لاحظ المشرفون عليها الإندماج التام بالأدوار، بحيث تعرض الذين ادوا ادوار المسجونين لشتى انواع القمع والتعذيب النفسي من قبل الذين ادوا أدوار السجانين.

على ضوء تجربة سجن ستانفورد، اقترح العالم زيمباردو، جملة من العوامل التي تساعد في الدخول الى حالة الإندماج في الجمهور (ووردت تسمية "القطيع" من العالم نفسه بدلا من الجمهور التي ذهب اليها لوبون) ويعود الفضل لوضع نظرية سلوك القطيع الى عالم الأحياء الأمريكي هاملتون سميث  . والعوامل التي صاغها زيمباردو  هي :

  * إخفاء الهوية : حيث لوحظ في التجربة إن الذين لعبوا دور السجانين من الطلاب، والذين كانوا يخفون وجوههم ظهروا أشد قسوة على زملائهم من الذين كانوا يكشفون وجوههم. وفي الحياة توجد الكثير من التجارب المشابهة لذلك.

* إنعدام المسؤلية : تبرير كل أفعال الجموع الحادة بانها مسؤولية الجمع وليست مسؤولية الأفراد، يمكن ملاحظة ذلك في حالات القسوة والإبادة في الحروب، وليس بعيدا علينا ما قامت به وتقوم به داعش من وحشية وآخرها ذبح الأيزيديات الخمسين دون رفة جفن.

* الإثارة الحسية اثناء الفعل : كالتكبير في حالة داعش ، والأغاني الحماسية والخطب المحرضة.....الخ.

* التجمعات الكبرى : يتم فيها بسهولة التأثر وتقليد آخرين .

* الحسية المفرطة : يكون التأثير كبيرا إذا كانت إحدى الحواس مفرطة الحساسية وخاصة عند التفسير المبالغ لحركات الغريم وردود أفعاله

* الوعي المتغير: الذي يؤدي الى التقلب السريع للمزاج والسلوك .

وكانت تلك النظرة العدمية لتطبيقات نظرية الجموع، وإقتصارها على الجانب العدواني في السلوك او في تكوين المافيات والعصابات ذات الصبغة الفاشية، بينما أفرزت لنا الحياة إستعمالات شيقة لها ، فقد رأينا في ألأفلام السينمائية، ذات الطابع الملحمي، والتاريخي، وأفلام الحربين العالميتين الأولى والثانية ، كيف استطاع المخرجون من تحريك الكتل البشرية الهائلة التعداد، بتناغم وانسياب، وكذلك من شاهد وقائع إفتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في الصين في 2008م، وقف مندهشا للقدرة الهائلة، للإستعراض البشري الذي قدمته الكتل البشرية وكأنها فرد واحد يستعرض. بالتأكيد إن هذا الإستعراض جاء نتيجة الإستخدام العلمي الواعي لأداء الجموع الكبيرة و لعل من شاهد فلم "الحرب والسلام" لمخرجه سيرغي بندارشوك انبهر في تداخل حركات الجموع الممثلة للجيش الفرنسي في الفلم ، مع الجموع الممثلة للجيش الروسي فيه.

فالحياة بكل تلوناتها، وكل ما قدمته العلوم والفلسفة، ومن خلال التجربة الحية للإنسانية جمعاء تؤكد بما لا يقبل الجدل على نسبية الحقيقة، وإن المعارف الإنسانية ينظر اليها، في ملموسيتها في اللحظة المعينة، وفي الغاية من تطبيقها ، فليس كل ما أستعمل بشكل سئ هو سئ دائما ، والعكس صحيح ، فالعالم ملئ بالإستعمالات والفعاليات التي أنشأت للعمل على اساس النشاط الفعال من أجل القضايا الإنسانية الهادفة ، وبنفس الوقت لا تذيب فردية المرء في خضم فعاليات الجموع ، وهي تعمل وفق قاعدة " الواحد للكل والكل للواحد " وبذل علم النفس الإجتماعي الحديث، الجهود الحثيثة لتجاوز، التأثير السابق على نشاط منظمات المجتمع المدني وخاصة ، المنظمات العاملة في مجالات الإغاثة ومكافحة الكوارث ، والأمراض وفي مجال إعانة الشعوب وجمع التبرعات لضحايا هذه الكوارث .