تناقلت انباء يوم الجمعة الحادي عشر من كانون الثاني للعام الجديد 2019 وفاة المفكر العراقي الكبير علي الشوك . بفقده فقدت الثقافة العراقية طوداً شامخاً سيظل عطاءه خالداً مع اسمه الذي شكل محوراً بارزاً في الثقافة العراقية والعربية.

علي الشوك كان للثقافة العراقية والعربية مزرعة يانعة ضمت كل ما تشتهيه الأنفس وتهفوا اليه القلوب من ثمار الثقافة ونتاجات العلم الواسع الذي لا ينضب حصاده . وقد سمحت لنفسي ان اتجول ، ولو على عجالة ، في هذه المزرعة الواسعة آملاً ان اُّلامس البعض القليل من ثمارها .

حينما نتتبع مسيرة الثقافة العراقية لنرى ما كانت عليه بالأمس وما آلت إليه اليوم ، وقد نستكشف ما ستكون عليه غداً ، فسوف نجد على طريق هذه المسيرة رموزاً ظلت منتصبة رغم عاتيات الريح ورغم قلة الزاد وندرة العون الذي لم يثنِ من شموخها ويكل في سواعدها . الثقافة العراقية ، التي لا أعني بها ثقافة اللاإنسان الذي يمارسها اليوم في وطننا بعض مَن يَحسبون أنفسهم على الإنسان ، ناهيك على ثقافته. إن ما أعنيه تحديداً الثقافة العراقية التي إرتبطت وظلت مرتبطة بالإنسان ككل وبالإنسان العراقي على وجه الخصوص . هذه الثقافة التي سارت بخطى تباينت في سعتها واختلفت في ثباتها إلا أنها ظلت وفية لمنهجها داعية له حتى في أشد أزماتها .

وحينما نسأل أنفسنا : أين مُستَقَرُ هذه الثقافة اليوم ...؟ هل هو الوطن الذي سالت دماءُ مثقفيه بضربة كاتم صوت أو بانفجار عبوة ناسفة أو بطعنة سيف إسلاموي يرعبه نور الكلمة ولا يجرأ أن يواجه قوة القلم بكل سيوفه ...؟ أم أن وطن هذه الثقافة التي تأصلت جذورها في أرض العراق أصبح اليوم غير هذا العراق وغدت تربتها غير تربته ...؟

قد يُجيب الوطن على مثل هذه التساؤلات فينقلنا إلى أولئك المثقفين العراقيين الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم فعلاً وهم ينشدون نشيدهم ، ولو بتهكم واضح أحياناً ، ومنهم من قضى نحبه ، ومنهم مَن ينتظر ، وما بدلوا تبديلا . والأمل الذي لا ينبغي هجره ، يشير إلى أنهم سوف لن يبدلوا تبديلا في الوقت المنظور على الأقل . إلا أنهم يسعون ، والحق يقال ، إلى هذا التبديل فعلاً , بالرغم من حالات اليأس والإحباط التي تنتابهم في بعض الأحايين . إلا ان حياتهم ضمن المعادلة الثلاثية الحدود : اليأس ...ألأمل ...أليأس ، جعلت لبعض الأمل مكاناً في حساباتهم على أرض هذا الوطن الذي تنسحب فيه خيولُهم عشرات الخطوات إلى الخلف ، علَّها تستطيع أن تخطو خطوة واحدة إلى ألأمام يوماً ما . أن تتقدم عبر طريق الظلام الفكري والإستغناء المقنن بفتاوى فقهاء السلاطين التي لا تريد أن تختزل جهلها بالدين ، كمجال لإرتزاقها في المواضيع التي يعالجها الدين في حقول العبادات والعلاقات والمعاملات فقط ، بل أن جهلها بالعلم والثقافة أدى بها لأن تجعل من هذه المحاور دليلاً على عمق غباءها واسوداد أفكارها المكللة بكل ما يواجهه المثقف العراقي اليوم داخل الوطن من أساليب تُصارعُه على بقاءه وليس على ثقافته فقط .

أم أن وطن هذه الثقافة العراقية هو المنفى بكل ما وسعته الأرض من مساحات ومِن كلِ مَن إتخذ له في هذا الكون الفسيح بقعة يمارس من فوقها ما تمليه عليه هذه الثقافة . لقد كثروا ، وكثُرت وتنوعت أجواء المثقف العراقي خارج الوطن حتى أصبح من العسير جداً أن لا نرى التلاقح الثقافي العراقي بين شرق الأرض وغربها أو شمالها وجنوبها . وما المثقف العراقي اللامع علي الشوك إلا مثلاً، بارزاً ، في سماء هذا التلاقح الحضاري الذي جعل الوطن حاضراً معه . حاضراً مع العراقي المتنقل بين قارتي آسيا وأوربا لا ليمارس علمه وعمله في الرياضيات التي ألوى زمامها فقط ، بل وليكشف أسرار الموسيقى التي جاءت في كتابه الذي حمل هذا العنوان والذي كتبت عنه جريدة السفير اللبنانية تقول :

" فالموسيقى ليست عافية علي الشوك وكفى ، بل هي أيضاً مرضُهُ السعيد ، مرضه السعيد أو الميلانكوليا السعيدة التي ذكرها نيتشه في كتابه " هكذا تكلم زرادشت " إنتهى تعليق الجريدة .

كثيرون هم الذين كتبوا عن البهجة في سماع الموسيقى وعن الطرب الذي يسمو بالنفس إلى آفاق لم يجد المرء لها سبيلاً دون نغمة آلة في فرقة أوركسترا أو مداعبة أناملِ بدوي لنايه في الصحراء . إلا أن الموسيقى لدى علي الشوك تسمو على كل ذلك لتصل به إلى نسيان نفسه ، كما عبر هو عن ذلك في وصفه لتأثير الموسيقى عليه .

يُقال أن الموسيقى هي اللغة المشتركة الوحيدة المفهومة بين شعوب الأرض . هذه الأطروحة بلورها علي الشوك حينما كتب عن " الأطروحة الفنتازية " من خلال ما تلاقفته أذنُه الأممية وما تفاعل معه ذوقُه الشمولي في عالم الموسيقى الواسع الرحب العديم الحدود . إذ ان علي الشوك تطربه حتى إيقاعات أللاموسيقى التي وجدها في الأصوات الإحتكاكية لدى شعوب أستراليا الأصليين وإلى الموسيقى التي يطربون لها والتي وصفها ب " أللاموسيقى " التي أطربته أيضاً بالرغم من ذلك . ولم يخلو ذلك ، في نظره ، من المحتوى الفلسفي للموسيقى . فانصرف إلى هذا الحقل باحثاً عن فلسفة الموسيقى وعن أجوبة للأسئلة التي طرحها مستفسراً " عن السر الذي رافق موسيقى الأسطورة (موسيقى أورفيوس) الذي جعل الحيوانات والأشجار والصخور تتأثر بها . أو الذي يدفع إلى الجنون في بعض المسرحيات . ولماذا يتمرغ بعضهم بالتراب حين سماع الموسيقى ." هذه ألأسئلة وغيرها الكثير التي جعلت من الفلسفة ركناً هاماً من اركان الموسيقى في عالَم علي الشوك الموسيقي الفلسفي .

بيد أن عالَم علي الشوك لا يعرف الحدود . فالموسيقى التي تؤدي به إلى نسيان نفسَه ، تنتقل بهذه النفس التي أصبحت نسياً منسيا إلى عالَم التراث الذي ينفخ فيها من روحه ليبعث فيها ليس حياة سومر وبابل وأكد فقط ، بل وكلَ أجواء الحياة التي زخر بها وادي الرافدين وما ضمته أرضه من ثقافات ومعارف .

لقد غادر جسدُ علي الشوك أرض الرافدين هذه قبل اربعة عقود من الزمن . إلا أنه ظلَّ ملتصقاً فيها فكراً وروحاً ، وما روايته " ألأوبرا والكلب " التي أراد بها أن يجاهر بهذا الإلتصاق بالوطن ، إلا واحداً من السبل ووسيلة من الوسائل الكثيرة التي رافقت علاقتَه ببغداد وبكل ما يجره إليها بقوة فيها . بغداد وكرادة مريم بالذات ، حيث الطفولة والشباب وحيث بعض العادات والتقاليد البالية التي طالما ربطها مروجوها بالدين ، كعادتهم في هذه الأيام ، والدين منها ومنهم براء ، والتي كادت ، نعم كادت ، أن ترميه بين أنياب عالَم الجهل ، في الوقت الذي كان الصبي علي الشوك يتطلع فيه بكل تأهب وتحفز إلى عالَم النور . وحول ذلك يقول لنا علي الشوك : " لقد حاول أبي مراراً حرماني من الذهاب إلى المدرسة، وذلك بتأثير أو ضغط من أحد أصدقائه في الجامع ، أولئك الذين كانوا يعتبرون أن المدرسة تعلم الكفر ."صرح بذلك علي الشوك وقلبه مليئٌ بالحزن على ما يمكن أن تجر إليه مآسي الجهلة التي تتشابه عندهم وتتشابك حروف الفكر والكفر فلا يميزون بين مفهومي هذه الحروف المتشابهة .

لقد كان مفهومُ تحريمَ المدارس سائداً بين بعض الأوساط حقاً في أوائل القرن الماضي . وربما لم يكن سائداً في بغداد بالذات مثلما كان عليه الأمر في المناطق الوسطى والجنوبية من العراق . إن جهل مُفسري الدين بالدين ذاته جعلهم يجعلون من هذا الدين الذي بدأ بكلمة إقرأ ، عدواً للقراءة . ومن الدين الذي لا يساوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، طريقاً إلى الكفر . ومِن طَلَبِ العلم من المهد إلى أللحد سبيلاً مظلماً لا يعي الحياة إلا في ظلام ذلك اللحد .

إلا أن عزم الصبي والشاب علي الشوك على طلب العلم وتشبثه بأمر إقرأ ، جعله لا يكتفي بما حصل عليه في وطنه من أسس علمية أهلته لأن يخترق الأجواء عابراً القارات والمحيطات طلباً لمزيد من العلم ونيلاً لفيض من المعارف التي عمل بعدئذ على إيصالها إلى أهله في وطنه خلال عشرات السنين من العمل التدريسي المضني .

العمل في مهنة التدريس ، وفي موضوع يستنزف الفكر ويشاغل خلايا الدماغ مشاغلة لا يمكن أن يُقال عنها بأنها نوع من المداعبة ، في موضوع الرياضيات التي كان سعيداً بتدريسها ، رغم عناء هذا التدريس ، كل ذلك لم يشغل طالب العلم علي الشوك ، وفي كل مراحل عمره ، عن أن يضع المهنة جانباً بين الحين والحين ليشغل نفسه بالتراث . حقل آخر بهيج في مزرعة علي الشوك المترامية الأطراف .

لم تثنه الدرجات الواطئة التي حصل عليها في الإمتحانات الثانوية في موضوع اللغة العربية عن عزمه للإنشغال بالتراث وحتى في جانبه اللغوي . وكأنه بذلك قد حاكى أنشتاين واتخذه مثالاً يُقتدى به ،حينما حصل هذا على درجات واطئة في موضوع الرياضيات الذي نبغ به بعدئذ ، فجمعت علي الشوك مع أنشتاين هذه المصادفة الغريبة التي لامست إختصاصه الذي لم يستطع ان يستوعبه العالم الكبير في صباه .

لقد بدأ الخزين التراثي الذي جمعه الشاب علي الشوك يبرز على السطح في بداية خمسينات القرن الماضي . واشتدت رغبته في الكتابة عن هذا التراث ، كما يشير هو إلى ذلك ، خاصة حينما تناول في كتاباته ذلك المؤلَف الشهير " وعاظ السلاطين " للعلامة الكبير الدكتور علي الوردي .

لم يقتصر الكاتب التراثي علي الشوك على نشر نتاجه الأدبي في مجلة المثقف التي صدرت بعد ثورة الرابع عشر من تموز والذي كان نشطاً في هيئة تحريرها فقط ، بل أن مساهماته الفكرية التراثية والأدبية كانت تشغل حيزاً هاماً في صفحات كثيرة من الصحف والمجلات الفكرية الأخرى .

مَن يتجول في مزرعة علي الشوك قاصداً حقولها الفكرية والتراثية والأدبية والموسيقية ، فإنه سيجد فيها تلك الزهور البهيجة التي تسر القارئين حقاً . قد يجد فيها زهوراً مألوفة لديه ، إلا أنها قد أُعيدت وصُوِرَت بشكل آخر يُنبي عن ريشة فنان بارع . وقد يجد زهوراً غريبة حقاً ، إلا أن الجهد الذي بذله زارُعها فيها يزيل عنها أرتباك الجهل بها . فحينما يقول علي الشوك بأن أول كتاب صدر لي بإسم " الدادائية بين الأمس واليوم " فإنه يستمر قائلاً : " ربما هناك مَن لا يعرف ما هي الدادائية ، ولماذا بالتحديد بين الأمس واليوم ". وبريشة الفنان القادر على عكس الصورة بألوانها الطبيعية يقول : " الدادائية مذهب فني يدعو إلى الفوضوية وإلغاء الفن ....وقد جاءت كرد فعل من الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من مجازر وسفك للدماء ". أما لماذا بين الأمس واليوم فيقول : " فبحكم قراءتي التراثية العربية كنت أقف عند الكثير من الأشياء الغريبة في تراثنا العربي بما يرقى إلى السريالية والدادائية والفوضوية ، فربطت بينها وبين ما ظَهَر لاحقاً . كما وجدتُ أن لبعض الشعراء العرب تصرفات لا تختلف عن تصرفات الفوضويين الدادائيين في القرن العشرين ".

إن الصبي والشاب علي الشوك الذي لم يسعفه الحظ بالحصول على درجات جيدة في إمتحانات اللغة العربية ، بدأ يغوص في بحار ومحيطات " علم إشتقاق الكلمات " . ربما كانت روح التصدي لكل ما هو غير علمي لا يقتنع به صاحب المنهج العلمي الواضح ، وعلي الشوك يسير على هذا المنهج العلمي الذي ساعده على سلوك طريق التصدي هذا حينما قرأ كتاب " مغامرات لغوية " لعبد الحق فاضل والذي زعم فيه مؤلفه أن اللغة العربية هي أصل جميع اللغات ، دون أن يبني زعمه هذا على اسس علمية . لقد سار علي الشوك على طريق التصدي ليكتشف من خلال منهجه العلمي بأن اللغة العربية التي ناءت عليه بكلكلها في صباه ليست هي اللغة الأم ، كما زعم عبد الحق فاضل . " وإنما هي بنت اللغةِ السامية . وحتى هذه ليست أساسية وإنما هي جزءٌ من اللغات السامية الحامية ". ثم يواصل علي الشوك بحثه في أصول اللغة العربية فيقول : " وضمن ما قرأت كتاب لويس عوض " فقه اللغة " وفيه يعتبر اللغة العربية بنت اللغة الهندية الأوربية أو هي تابعة للغات الهندية الأوربية ".

إن ذَكَرَ التاريخُ بعضَ فصوله بشيئ فإنه سيذكر نهايةَ سبعينات القرن الماضي بالعراق بمزيد من اللعنة وكثيرٍ من ألتأسي وفيضٍ من الحزن على ما حل بأهل العراق من ظلام جعلهم يتخبطون في واجهات العالَم ، مُناشدين العون ، هرباً من طغيان جبابرة عتاة كجبابرة البعثفاشية المقيتة التي لم يوقف ولوغُها في الدم واقترافُها للجريمة كلُ هذا الكم الهائل من العلم والكفاءة الذي حمله علي الشوك وعاش به جدل الإختيار ، كما عاشه الملايينُ من أهله ، بين ألمشاركة في رسم السواد على وجه بغداد ، أو الركضِ وراء المجهول الذي كانت ميزته الوحيدة إستمرارية نقاء الضمير ونظافة اليد حتى وإن عجزت هذه اليد عن تقديم ما تريد أن تقدمَه لأهلها .

لقد غادر علي الشوك وطنه مجبراً عام 1979 بعد أن رفض التسلط البعثفاشي وقاوم محاولاته بجره إليه . لقد أبى فكر علي الشوك ومبادءُه وكلُ ما آمن به من أخلاق وتقاليد أن يساوم عليها . فأُكرِهَ على ترك النبع الذي لم يكن يريد له تركاً يوماً ما . ورحل إلى محطته الأولى براغ ثم غادرها إلى المجر ليعمل في منظمة التحرير الفلسطينية ، مُجسداً بذلك سعيَه الوطني والقومي ولكن من منظور إنساني تقدمي . إلا أن مستقره الأخير في لندن التي جاءها عام 1995 كان قد فتح امامه الآفاق الرحبة الواسعة، كما يقول هو ، بحيث أصبح لديه المجال للإطلاع على المصادر التي كان يسعى للوصول إليها . فلا عجب إذن أن نرى علي الشوك وهو يكتب ثلاثة كتب في غضون أقل من اربع سنوات ، تتحدث عن اللغات سماها : ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب ، وجولة في أقاليم اللغة والأسطورة ، وكيمياء الكلمات .

بالرغم من كل هذا الإهتمام بالهوايات الأدبية والتراثية واللغوية والموسيقية ، فإن عالِم الرياضيات علي الشوك ومهنتَه التدريسية ظلّا يلحان عليه " على متابعة المستجدات العلمية خاصة في مجال الفيزياء وعلم الفلك " بحيث دفعته دراساتُه هذه إلى " الوقوف على معلومات وأشياء غريبة " . وحينما يُقَّيِمُ كلَ ذلك يقول : " وجدت أنه لابد من صدور كتاب بهذا الخصوص " . وفعلاً كان " الثورة العلمية وما بعدَها " في عام 2004 ، وهو بمثابة تمهيد لكتاب آخر عن مأزق العلم في الوقت الحاضر لاسيما علمي الفيزياء والفلك .

إن هذا التنقل بين حقول علي الشوك العامرة بالموسيقى والتراث والرواية واللغة والرياضيات والفيزياء والفلك جعل منه ذلك الإنسان المرهف الحس الذي سخَّر حسه هذا ليتحدث عن مآسي البعض ، وهو من هذا البعض ، الذي عانى من ويلات الأنظمة الشمولية التسلطية القمعية . لقد أراد علي الشوك برواية " السراب الأحمر ـ سيرة حياة هشام المقدادي " أن يسجل تكرار المواقف القمعية وتشابُهِها ، حتى لو إختلفت الأنظمة الشمولية في مسمياتها .

إن علي الشوك ليس بكاتب ومؤلف فقط ، بل هو ناقد علمي أيضاً ، ومراقب حذق وجريئ . وهذا ما أثبته في كتابه " كيمياء الكلمات " الذي تناول في مادته الغزيرة مواضيع إنتقلت بين البحث عن أصول الكلمات ومنابعِ الأساطير إلى نقد المعاجم اللغوية ذات المستوى العلمي الرفيع كمعجم العلامة العراقي الراحل هادي العلوي الموسوم ب " قاموس المجتمع والإنسان " ، على سبيل المثال لا الحصر .

إلا أن ما يجلبَ ألإنتباه في هذا الكتاب ، كيمياء الكلمات ، هو عنوانه الذي يسجل إنعكاساً لمحتواه الذي يأبى إلا أن يرى الكلمةَ كخليط تتمازج فيه عدةُ عناصر لتأتي بذلك الناتج الذي جعلته الشعوب وسيلة لحوارها وقاعدة للتفاهم بينها . كما أثبت بأن الإستعارة من الغير هي ظاهرة علمية ثابتة لا يمكن ان ينكرها إلا مَن يجهل هذه الأصول . هذا الجهل الذي وظفه البعض ليصب في مجرى العنصرية والإستعلاء والأفضلية . إنه علم الكيمياء اللغوية ، إن صح التعبير ، ذلك الذي أراد له علي الشوك أن يشكل القاعدة العلمية لفهم التطور البشري المرتبط بتطور اللغات .

الجولة في مزرعة علي الشوك المتراميةِ الأطراف الكثيرةِ الحقول الواسعة المختلفة الألوان والأزهار ، جولة مضنية متعبة بقدر ما هي مُبهِجة ومنعِشة . إلا أن الحلم يظل يراود كلَ مَن يقفُ على أعتاب هذه المزرعة بأن يحظى يوماً ما بالمرور ، ولو مر الكرام ، على كل ما فيها . وسيظل هذا الحلم غير قابل للتحقيق ، إذ أن مزرعة علي الشوك لا تستوعبها سنينُ العمر الواعي للإنسان .

عرض مقالات: