تميز الوضع السياسي في العراق بالغموض والتخبط وعدم وضوح الرؤيا، بسمات طائفية واضحة، وبنظر المراقبين أن هذا التوصيف قد تم وضع خطوط مسبقة له، من قبل الأحزاب التي تكالبت على سدة الحكم بُعيد التغيير في العام 2003، وبرسم هندسي وضع خطوطه العريضة سيء الذكر والصيت حاكم العراق آنذاك بول بريمر، بمباركة وتأييد وحماس الأحزاب الدينية والطائفية والإثنية، بعقلية تتسم بضيق الأفق وغياب الرؤيا وعدم الوضوح في المواقف، بسبب التخبط الذي وقع الساسة الجدد في أوحاله وتعقيداته وبلاويه وشراكه، لأن السلطة والاستحواذ على المغانم وتطبيق شعارات طائفية ضيقة ومحاصصة فريدة من نوعها اعتمادا على مبدأ "هذا الك وهذا الي"، لا علاقة له بوطن كان يحتاج الى عقول نيّرة وضمائر وطنية حية وحماس وطني لإخراج ما كان يعانيه العراق من أوضاع مقلوبة رأسا على عقب، بلد يفتقر لكل مواصفات هيبة الدولة وفرض سلطة تتحكم بمفاصل الأوضاع التي لا يوجد مثيل لها ابدا في اصقاع الكون، في بلدان متحضرة وغير متحضرة، لأن بلدا خارجا للتو من محارق وويلات ومحن ومصائب لا حصر لها، يعاني من مصاعب قد يستعصي السيطرة عليها من قوى خارقة، فما احرانا ونحن نفاجأ بظهور شخصيات لا تجربة ولا دربة ولا سابق عهد لهم بالسلطة وهم يطبقون على مفاصله، فعلى سبيل المثال، اذا أراد شخص ما أن يلتحق بالحقل الدبلوماسي عليه أن يدخل دورة تكوينية ليتعلم أسس ومبادئ العمل الدبلوماسي وقوانينه، كي يفلح في عمله الذي يمثل المرآة الحقيقية لبلده، هذا مثل بسيط رغم فارق الربط الكبير، فما بالنا بوطن اسمه عراق بتاريخه وحضاراته وثرواته وشعبه ومكوناته وفصائله وتعدد إثنياته واعراقه واديانه ومذاهبه، هذا الخليط العجيب الغريب والعصي على الإمساك بمفاصله ولو جزئيا، لا يمكن لساسة جدد لا يملكون من الخبرة السياسية والوعي الثقافي وفهم ماهية وتركيبة وتعقيدات العراق الذي قد يكون الغرباء اكثر قربا وفهما له منهم، أن يتمكنوا من السيطرة على أوضاعه المتداخلة والمعقدة، وقد اعلنوا وصرّحوا بانهم قادمون لحكم البلد بنظام ديمقراطي وطني فيدرالي يحافظ ويراعي ويقرب بين كل المكونات وفسيفساء المجتمع العراق، وإذا بهم يقلبون ظهر المجن ويبرزون لنا بوجوه شيطانية، علما باننا نفاجأ بظهور شباب لا يفقهون في السياسة وهم يتبجحون بخطابات اكبر من حجومهم الضئيلة.
من كل ما تقدم ونظرا لبهجة العراقيين للخروج من نفق البعث المظلم وسياطه القمعية المخيفة، استبشر الجميع بأن عهدا زاهرا قد حل في العراق، وأن مستقبلا زاهرا ينتظرهم، هم وأولادهم واحفادهم والأجيال اللاحقة للخروج من كوارث الحروب والسغب والحصار وشظف العيش وضيق اليد والتفكك الأسري، وسواها من فواجع كانت تعشعش في دواخل العراقيين قبل الاقتراب منهم وما زالت بذات المرارات، ولكن... ويا حسرتاه من لكن، تبين أن كل شيء كان هواء في شبك، وان فرسان الدعوات الباطلة بالتغيير كانت لذر الرماد في العيون، فكشّر الطائفيون والاثنيون والمراؤون عن انيابهم وشراسة افعالهم فكل ما وعدوا به وصرّحوا به وبشّروا الناس بقدومه من خير ورفاه وخلاص من المحن المتناسلة في الواقع المرير، كل ذلك كان رياء ونفاقا وكذبا وتدليسا، وتوضحت شيئا فشيئا للعراقي المكلوم بكوارث الأوضاع التي يعيشها بمرارة وعذاب وجوع والم يومي ممض، صورا مغايرة تماما، فما كان يراهن عليه بأن الخير قادم على أيدي المعارضين السابقين للنظام الفاشي المنهار، وأن التغيير نحو الخلاص الحقيقي كان سرابا، بل وتم تكريس الأوضاع الموروثة من العهد البائد لتزداد سوءا وخرابا ومهانة، ليجد العراقي نفسه بين كمّاشة الطائفية ونظام محاصصة فاق بكل مصائبه استحواذ البعثيين على كل شيء وتقريب من كان منهم بكل الامتيازات، أما من يخالفهم أو حتى من يلتزم الصمت لم يكن ينوبه إلا الفُتات، فحدث الزلزال المدمر، بتناسل حزب البعث، الى أحزاب لا حصر لها عادت اشرس واعتى واشد ظلما على الناس وتبددت الثروات الوطنية وتم توزيعها على "مقاومي" البعث الزائل، لنفاجأ بظهور صداميين لا حصر لهم، بعد ان كان العراقي يعرف طاغية واحدا أسمه "صدام" تناثر الاسم الى نماذج طبق الأصل، بل واشد فتكا، قد لا يقترب كثيرا هذا الظلم من أجساد النظام وابادة من يقول "لا"، بل تناسلت مخالب النهب والفساد والاستحواذ السافل لثروات البلد بشكل مخيف والامساك بكل شيء، حتى بتكييس الهواء وبيعه في سوق نخاستهم، ناهيكم عن بيع العراق لأسيادهم وأولياء نعمهم من دول الجوار ليسلموا العراق لكل من هب ودب من الحاقدين على هذا البلد وشعبه على طبق من ذهب لم يكونوا يحلمون أبدا بأن يوما سيأتي ليتمكنوا من ممارسة كل احقادهم وضغائنهم وبغلّ وبغض شديدين، والمصيبة أن منعدمي الذمم والضمائر يعللون خياناتهم البغيضة هذه بتخريجات من السذاجة والغباء، مما يجعل الطفل الرضيع ينبطح ارضا على غباواتهم.
من العسير ان نعدد كل مثالب السياسيين ومفاسد الوضع السياسي لأنها فاقت كل تصور حتى قد تكون مؤهلة لدخول موسوعة غينيس للأرقان القياسية، لكثرة مساربها وتفرعاتها المهولة.
يبقى السؤال المحير والذي يدفع المراقبين في دهشة وحيرة دائمتين، لماذا كل هذا التمادي في ذات النهج التخريبي للعملية السياسية برمتها، رغم مرور اكثر من خمسة عشر عاما على التغيير، والوضع السياسي يسير من سيء لأسوء والشارع العراقي الذي غسل يديه من "العكس للعكس" وفقد كل هدف بنيل فتات ما كان يبني من آمال رملية تهاوت بسرعة البرق، بعد أن تيقن الجميع بأن لا حياة ترجى من هؤلاء الفاسدين والمنافقين والمتلونين بهكذا طرق خبيثة ورثة، وقبل كل شيء ما نلاحظه ونتلمس خطورته الراهنة واللاحقة وبشكل اعنف واشد وقعا من غليان يومي يعم خريطة العراق من أقصاه لأقصاه، ليتحول مستقبلا الى هبّة جماهيرية لجموع جياع العراق ومسحوقيه، لتجرف بطوفانها العتي والهادر كل شيء؟
هل بلغ التحجر لأحاسيس ومشاعر وبوصلات السياسيين الفاسدين مديات من التوقف عن العمل وشم رائحة الحريق القادم؟ وهل ان مغريات السلطة وامتيازات النهب والسرقات اعمت عيونهم وبصائرهم، ونحن نلاحظ بشكل جلي بأنهم على شفا المحو الحقيقي، ولكنهم عطّلوا مجساتهم تماما، أما بقصد أو بدونه؟
ما زال ساسة العراق بكل مشاربهم وانتماءاتهم ومذاهبهم بذات التنكر لهموم الناس، وما زالوا مصرين على ذات النهج المحاصصي الطائفي المقيت والمخزي، وما زال التكالب الذي أخذ يستشري يوما بعد يوم ويتصاعد نحو الخراب دون ان نلحظ من يوقف عجلة الوضع الكارثي المتجهة نحو الهاوية.
يتكالبون على حصص الوزارات واصوات البرلمان وعضويته ورئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية والوظائف "السامية" وحتى المناصب الوضيعة وعديمة الأهمية، والقصد من كل ذلك تمدد اذرع الفساد والسرقات والحصول على الامتيازات وغيرها من امراض لأطماع خسيسة، يقينا سيتوجه لهيب حريقها لأجسادهم النتنة، حيث بلغت بهم القذارة لإدارة الظهر لصراخ وعويل ونحيب وعوز الفقراء والمسحوقين، والبلاد باتجاه الحريق الذي لا نهاية له والذي سيأكل الأخضر واليابس، لأن ما يهمهم هو المناصب الآنية، وليذهب العراق وشعبه المكتوي بنظامهم القذر، حيث الجحيم...
أما من وطني شريف تنتفض بداخله النخوة العراقية وشهامة العراقي المعهودة؟ ليقول لا لهؤلاء المنحطين، وينقذ العراق من شرورهم، لأنه لا يبدو ابدا ثمة امل يرجى من هؤلاء بالتخلص من الكوارث التي تتلاحق، إلا بإزاحتهم بهبّة جماهيرية، لأن من يفتدي وطنه بروحه وبأغلى ما يملك لهو الفعل الوطني الخير، فما معنى ان تظل على قيد الحياة وأنت تمر بموت سريري وتنتظر اجلك المحتوم بين لحظة وأخرى لتترك الفاسدين والخونة في نعيم وترف وبذخ ما بعده متعة، وانت وابناؤك وأبناء وطنك تتضورون جوعا وتعانون الفاقة وبشكل يومي لحظة بلحظة. لأن تضحية الانسان الحقيقية، اما لعِرضه وماله وأهله وكرامته، وكل ذلك تتحسرون أنتم جميعا عليها.
ورحم الله الشاعر أبو القاسم الشابي اذ يقول في بيته الشعري البليغ:
ومن يتهيب صعود الجبال*** يعش أبد الدهر بين الحفر
والعبرة لمن يعتبر