لم يسبق ان عاش العالم تباينا واختلافا داخل الحزب الواحد والمعسكر السياسي الواحد، وداخل الحركات الاجتماعية، وبين الدول منفردة، ومختلف التشكيلات الدولية، كالذي نشهده في الموقف منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط 2022.

ومع استمرار الحرب وتوالي حزم العقوبات المرتبطة بها، يمر هذا التباين بلحظات صعود وهبوط، جراء تغيير زاوية التناول، ووضوح الرؤية بشأن المخاطر المحدقة بأوروبا والعالم. ويبدو ان هذا الحراك أكثر وضوحا داخل قوى اليسار وحركة السلام، باعتبارها الحركة الأكثر اهتماما وارتباطا بقضايا الحرب والسلام في عالمنا. في هذه المساهمة سأحاول تناول جديد حركة السلام في المانيا، في ضوء استمرار الحرب، والمتغيرات التي ترافقها.

المشتركات

تضم حركة السلام في المانيا طيفا واسعا من القوى والتيارات السياسية والفكرية الناشطة فيها، او الداعمة لها. وتحتل قوى اليسار السياسي والاجتماعي بمعناه الواسع مركز الثقل فيها، الى جانب مشاركة نشطة من نقابات عمالية، تشكل جزء من الاتحاد الفيدرالي لنقابات العمال في المانيا، ومنظمات نسوية، ومنظمات الدفاع عن البيئة ومكافحة التغيرات المناخية، وحركات اجتماعية، مثل الحركة المناهضة للعولمة، ومنظمات السلام المرتبطة بالكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية، ومنظمات ومبادرات أخرى.

وعلى الرغم من تنوع مشارب كل هذا الطيف الواسع من المنظمات، الا ان مشتركات حركة السلام تتمثل تاريخيا في رفض الحرب باعتبارها وسيلة لحل النزاعات الدولية وتتمسك بالحلول والمقاومة السلمية، والمفاوضات والحوار بين الأطراف المتنازعة، استنادا الى استقلال البلدان ذات السيادة، والقانون الدولي، وتعطي الحركة دورا أساسيا للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأقلمية في انهاء الحروب، وفي منع قيام حروب جديدة. وتشترك قوى السلام في رفض الحملة العنصرية المعادية لكل ما هو روسي، ثقافيا، وابداعيا، ورياضيا.

التباين في الموقف من الحرب الراهنة

لن اتناول مواقف المجموعات المتبنية لموقف مبني على جمود فكري احادي الجانب، او تلك التي تنطلق من شعار عدو عدوي صديقي”، لأني أرى ان هذا الموقف بعيد عن الموضوعية، ويعاني أصحابه افرادا وجماعات من حالة عجز فكري وسياسي، ويجنحون للمراهنة على منقذين محتملين!

اعتقد ان التباين داخل حركة السلام يتمحور على تحديد طبيعة هذه الحرب، وطبيعة أطرافها المباشرين وغير المباشرين، وكذلك في تحديد المسؤولية المباشرة عن اندلاعها، هناك اتفاق واسع على ادانة الغزو الروسي، مع وجود اقلية تركز على الخلفيات التاريخية للحرب، ومحاولات الغرب خنق روسيا ومحاصرتها. بالإضافة الى وجود تباين آخر يتعلق بالموقف من العقوبات الغربية ضد روسيا وعمليات تصدير الغرب الأسلحة الى أوكرانيا، والذي بات واضحا انه ينتقل من ارسال الأسلحة الدفاعية الى توريد الأسلحة الهجومية بهدف إطالة امد الحرب.

طبيعة الحرب

شكل تحديد طبيعة الحرب موقع خلاف داخل الحركة، فعلى الرغم من عدم التعاطف مع شخص الرئيس الروسي ونظامه الاستبدادي، هناك من يعطي الأولوية لانعكاسات الحرب السياسية، على جوهر طبيعتها، باعتبارها حرب هيمنة بين امبراطوريتين: الولايات المتحدة الأمريكية القوية اقتصاديا وعسكريا، والتي تريد الحفاظ على هيمنتها، وعلى العالم احادي القطب، الذي تمني النفس باستمراره، والثانية روسيا التي تمتلك قوة عسكرية، ولكنها تعاني من ضعف اقتصادي واضح، مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم من ذلك ترى روسيا ان اللحظة مواتية لكسر قطبية العالم الواحدة، بعد نجاحات حققتها في مناطق مختلفة من العالم منها سوريا. وفي هذا السياق هناك تباين آخر يتركز على أولية التركيز على الالتزام بمبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي، بعيدا عما اشرنا اليه، وبالتالي يحمل روسيا المسؤولية الأولى عن الحرب، لغزوها أراضي دولة جارة مستقلة وذات سيادة، وقد أدى هذا التباين، والتأثير الكبير للحملات الإعلامية التي فجرها الغزو الروسي الى خلق إشكاليات غير قليلة داخل حركة السلام واليسار الألماني، ولعل الصورة داخل حزب اليسار الألماني اكثر وضوحا، لان ازمة الحرب، عمقت صراعات بين تيارات الحزب المتعددة، كانت موجودة أصلا، وخصوصا تلك التي تتعلق بملف الهجرة، ووباء كورونا، والتكتيكات الانتخابية في سياق الصراع مع اليمين المتطرف.

دعوات لرؤية جديدة

بفعل استمرار الحرب، واتضاح رؤية الولايات المتحدة وحلفائها واهدافهم منها، بدأ الحوار داخل قوى اليسار وحركة السلام يشهد تطويرا قائما على ضرورة اعتماد تحليل عميق لهذه الحرب وتطور مساراتها، التي تؤشر ملامح هدف الولايات المتحدة من إصرارها على استمرار، أي تحجيم روسيا كقوة هيمنة منافسة، الاستمرار في توريد الأسلحة الهجومية الى أوكرانيا، باعتبارها الوسيلة المباشرة لتحقيق ذلك، فمن الضروري ان تتوحد المواقف بشأن معارضة استمرار التسليح الهجومي وحزم العقوبات المتتالية، الموجهة أساسا الى سكان روسيا، وتنعكس على عموم سكان أوربا، في وقت يرى الكثير من المتابعين في اوربا، فشلها في التأثير المباشر والعميق على النظام الروسي.

لقد حاول بعض المتابعين، من أصحاب المواقف أحادية الجانب، تقديم هذا التطور، باعتباره تأكيدا لخطأ الموقف من الحرب ومن حكومة الرئيس بوتين، وهو امر غير دقيق، فان أنصار هذه الرؤية ينطلقون من المخاطر الجدية التي يسببها استمرار الحرب، بما في ذلك اندلاع حرب عالمية نووية، تعني تدمير الحياة في مساحات شاسعة من كوكبنا، بالإضافة الى ان استمرار الحرب، حتى بشكلها الحالي يعني، سيادة قوانين الحرب على الحياة الاجتماعية في اوربا، فلا معنى للحديث عن النضالات الاجتماعية، والتحول البيئي، والديمقراطية الاقتصادية، والتنمية المستدامة.

تحذيرات وحلول ممكنة

لقد حذر العديد من منظمات السلام من أن حصيلة هذه الحرب ستكون هائلة. وللأسف لقد كان هذا التحذير صائبا. وحتى ساعة اعداد هذه المادة، ووفقًا لمصادر عسكرية أمريكية، فقد قُتل أكثر من 200 ألف مقاتل روسي وأوكراني، إلى جانب آلاف المدنيين الأوكرانيين. خاصة في شرق البلاد، وتحولت المئات(مئات) القرى والمدن الى الأطلال. والالغام تغطي ثلث أراضي أوكرانيا، التي ستكون غير صالحة للسكن لفترة طويلة، بعد ان دمرت بالكامل. بالإضافة اكثر من 10 ملايين هجروا او هاجرو وبعد هذا كله يبقى السؤال: ما عدد الضحايا الذين يجب أن يموتوا وكم من الأرض يجب أن تصبح ملوثة وغير صالحة للسكن قبل أن يكون أطراف الحرب المباشرين وغير المباشرين مستعدين للتفاوض واحلال السلام؟

يقول متحدثون باسم حركة السلام، ان الحل يكمن في مفاوضات السلام على أرض محايدة، فلا مانع من شروط مسبقة. يجب أن تتم هذه المفاوضات في جنيف أو فيينا، على سبيل المثال، تحت قيادة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس. يجب أن يكون الهدف هو إيجاد حلول مقبولة. مثل الحكم الذاتي أو الحياد في مناطق معينة من أوكرانيا تحت حماية الأمم المتحدة، مع ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وروسيا.

ويمكن أيضا الاستفادة من المبادرة الصينية للسلام، والخطة المقترحة من الرئيس البرازيلي لولا دا سلفيا، التي عبرت روسيا وأوكرانيا، بشكل اولي عن استعدادهما لدراستها.

ويذكرون: طالما استمرت حرب أوكرانيا، فإن المشاكل المركزية الأخرى للبشرية سيتم إهمالها. هناك حوالي 30 صراعاً مسلحاً مستعراً في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يتطلب حلولاً عاجلة. ويفتقر مليار شخص إلى مياه الشرب النظيفة، والعديد منهم يتضورون جوعاً. بالإضافة الى أكثر من 100 مليون نازح. كثير منهم، بسبب كارثة المناخ. وبالتالي هناك ضرورة لأخذ هذه المشكلات على محمل الجد وتمويل حلولها، التي تكلف عدة تريليونات من الدولارات، بدلاً من تمويل العسكرة والتسليح والحروب. يجب على الإنسانية أن تتغلب على هذه الأزمة الوجودية حتى لا تحل نهاية الزمان.

نشرت لأول مرة في جريدة المدى بتاريخ 12 اذار 2023

عرض مقالات: